كيف تُستخدم سياسة «النقود المرحة» في تسعير المنتجات؟

هناك طرق وسياسات تتبناها الشركات عند تسعير المنتجات البعض تم تأصيله في أدبيات التسويق والبعض الآخر تصنف من الطرق اللا أخلاقية لأنها تستغل الجانب النفسي للمستهلك، ومن أبرزها ما يطلق عليه بـسياسة ''النقود المرحة''. ورغم أنني قد عرضت ملامح عن سياسة ''النقود المرحة'' في مقال سابق، إلا أنني أغفلت الأسباب الرئيسة وراء انتشارها. فكل من البائع والمشتري يفضلان التعامل بها دون غيرها رغم ما تحتويه من مكر وخديعة. وقبل أن أذهب قدما إلى صلب المقال أرني مضطرا للعودة إلى بعض الأفكار والأمثلة التي سبق أن تطرقت لها في المقال السابق كي تساعدنا على استرجاع بعض المفاهيم.
بدأت سياسة ''النقود المرحة'' تمارس في مجال الدبلوماسية والتفاوض الدولي على يد أستاذ التفاوض الشهير ''داوسون'' الذي عرف النقود المرحة بأنها عبارة عن تفصيل السعر بشكل هزلي حتى نراه أقل من وضعه الحقيقي. ولفهم آلية عمل سياسة ''النقود المرحة'' علينا أن نتخيل فطيرة كبيرة الحجم يصعب على فرد واحد أكلها، ولكن عندما تجزأ إلى عدة أجزاء صغيرة فإن ذلك يعد طريقة سهلة لالتهامها. ورغم أن سياسة ''النقود المرحة'' لم تؤصل بعد في أدبيات التسويق إلا أنه يمكن تصنيفها حسب رأيي المتواضع كأحد أدوات التسعير النفسي.
وقد لعبت هذه السياسة دورا حيويا في تحفيز السلع والمنتجات عندما نقلت تطبيقاتها إلى قطاع الأعمال في عدة مجالات من أبرزها: العقارات، التأمين، المفروشات، البيع بالتقسيط. لو سألت شركة بوينج عن التكلفة التي تتحملها لنقل 747 راكبا من ميناء إلى آخر فلن تتسرع وتجيبك بأن القيمة هي 5200 دولار، وإنما سترد بالقول ''11 سنتا لكل ميل للراكب الواحد''. وفي مجال الرهن العقاري يوضح سماسرة العقار أن قيمة امتلاك بيت الأحلام لن يكلف المستهلك سوى عشرة دولارات في اليوم، وهذه ليست القيمة الحقيقية للمنزل والمستهلك يعلم ذلك، ولكنه يتحاشى إظهار هذه الحقيقية حتى لا تحول بينه وبين تحقيق أحلامه في امتلاك بيت العمر. عندما يعرض السمسار الموضوع بهذا الشكل فإنه يبسط الأمر ويظهر سهولة إنجاز الصفقة لأنه أبرز للمستهلك زاوية لم يرها من قبل فشاع في قلبه الأمل في امتلاك المنزل مما يجعله يصدق أن عشرة دولارات هي قيمة امتلاك العقار، بينما القيمة الإجمالية الحقيقية التي سيدفعها هي 90 ألف دولار (عشرة دولارات في اليوم لمدة 25 عاما).
وأكثر مجال يبين لنا آلية تطبيق سياسة ''النقود المرحة'' نجده في مجال البيع بالتقسيط. فعلى سبيل المثال: غالبية شركات السيارات وما يتبعها من قنوات توزيع، ووسطاء، وبائعي تجزئة ووكالات يجيدون استخدام طريقة ''النقود المرحة'' عند تسعير منتجاتهم. فتحرص وكالات السيارات على عرض سعر التقسيط للمستهلك بدلا من السعر الإجمالي لأنه يقود إلى نتائج إيجابية في إتمام عملية الشراء ويُسهل عملية التفاوض مع المشتري والأفضل من كل هذا إذا استطاعت الوكالة أن تقنع المستهلك بتسديد الدفعة الأولى عن طريق البطاقة الائتمانية، فطالما المستهلك لا يدفع نقودا حقيقية فإنه على استعداد أن يدفع أي مبلغ وهو لا يعلم أنه يستدين من المستقبل. كما لوحظ أن الأثر الإيجابي للقسط على قرار الشراء أكبر بكثير من أثر القيمة الحقيقية للمنتج، وأثر الدفع بالبطاقة الائتمانية أكبر بكثير من أثر القسط الشهري. وبما أن الدفعة الأولى عادة ما تكون أعلى من قيمة القسط، فإنها لا تدخل ضمن التفاصيل المرغوب إظهارها للمستهلك ولا يتم التركيز عليها في الرسالة الإعلانية بل يُسلط الضوء على القسط الشهري.
وهناك عدة أسباب تلجأ إليها الشركات عند استخدام سياسة ''النقود المرحة'' عند تسعير منتجاتها من أهمها أن بعض المستهلكين لا يفضلون معرفة السعر الحقيقي للسلعة في المراحل الأولية من عملية اتخاذ قرار الشراء ويفضلون من يقوم بتجزئة السعر بشكل هزلي. فمن أهم مزايا هذه الطريقة أنها تربط المستهلك بالسلعة نفسيا ولا يبدي رغبته في معرفة السعر الحقيقي إلا بعد أن يمتلكها ويشبع حاجته منها، وهذا لا يحدث إلا في نهاية المطاف عندما يشبع حاجته من السلعة فيستيقظ من غفوته ويبدأ في إعادة حساباته، وكم دفع سعرا لهذه السلعة، وهل إجمالي السعر الذي دفعه يساوي المنفعة التي حصل عليها. وقد يتذمر المستهلك عند معرفته بالقيمة الحقيقية للسلعة إلا أنه يعاود شراءها أو أي من مثيلتها مرة أخرى وبالطريقة نفسها ويغض الطرف عن قيمتها الحقيقة.
وتبدو سياسة ''النقود المرحة'' من أفضل سياسات تسعير المنتجات بسبب ما تتميز به من مرونة عالية رغم أن المستهلك قد يتضرر من آثارها. والسؤال الذي لم نجد له إجابة حتى حينه هو: لماذا يتغاضى المستهلك ويسمح للشركات بتطبيق سياسة ''النقود المرحة'' عليه رغم معرفته باستنزافها لأمواله لدرجة أنه يفضل التعامل مع الشركات التي تظهر السعر بشكل هزلي عن الشركات التي تظهر السعر الحقيقي؟ ورغم أنني لا أملك إجابة مقنعة إلا أنني أرى أن السبب يكمن في أن المستهلك يريد أن يقتنى السلعة ويستمتع بها، فعندما يرى السعر الحقيقي للسلعة ماثلا أمام ناظريه فإن ذلك يبعده عن إمكانية اقتنائها فيبحث عن من يأخذ بيده إلى زوايا أخرى تقربه من إمكانية امتلاك السلعة، وهذا بالضبط ما تفعله سياسة ''النقود المرحة''. فعقل المستهلك الباطن يفضل السعر المجزأ حتى لو كان يحمل في طياته الخديعة. وكل هذا مازال فرضيات لم تبرهن بعد وتحتاج إلى دراسات معمقة لإثبات صحتها من عدمه، فعلى الباحثين في مجال التسويق الاهتمام أكثر بأدوات التسعير النفسي الذي يعد ميدانا خصبا للبحث العلمي وأراه لم يطرق كما يجب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي