رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


استراتيجية أمريكا لتغيير الاتجاه نحو العالم الإسلامي

لم يجد الرئيس الأمريكي بارك أوباما، خلال زيارته إلى العاصمة الإندونيسية جاكرتا، من الكلمات سوى تلك التي سبق أن قالها في القاهرة، قبل أكثر من عام ونصف، في خطابه الموجه إلى العالم الإسلامي، فراح يكرر تأكيده أن "الولايات المتحدة لا تخوض حربا ضد الإسلام"، وأن "العلاقات بين الولايات المتحدة والمجتمعات الإسلامية عانت لسنوات كثيرة، وقد جعلت البدء في إصلاح هذه العلاقات أولوية"، ودعا إلى ضرورة "بذل مزيد من الجهد لمعالجة القضايا التي تسبب التوتر ما بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي". كما جدّد دعوته إلى محاربة "المتشددين الإسلاميين من تنظيم القاعدة وسواه من التنظيمات المتشددة"، معتبرا مهمة "هزيمة القاعدة والمرتبطين بها" تقع على عاتق الجميع. لكن يبدو أن كلماته لم تلقَ ذلك الصدى المطلوب، نظرا إلى أنه لم يتمكن من تغيير شيء على أرض الواقع، بالرغم من مرور سنتين على انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، الأمر الذي يطرح أسئلة حول مدى قدرته على التأثير في أهداف وأولويات الاستراتيجية، التي تنتهجها الولايات المتحدة لتغيير الاتجاه نحو العالم الإسلامي.

أوباما بين خطابين
يبدو أن الرئيس الأمريكي أراد لزيارته إلى إندونيسيا التعويض عن الخسارة التي لحقت به وبحزبه خلال انتخابات التجديد النصفية للكونجرس التي جرت في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، حيث استُقبِل استقبال البطل العائد إلى الوطن في إندونيسيا، التي انتقل إليها مع والدته عام 1967، كما أراد من زيارته لها أن يستكمل رسالته إلى العالم الإسلامي التي بدأها في العاصمة المصرية قبل عام ونصف؛ لذلك فإن اختياره لإندونيسيا لا يأتي فقط من كونها أكبر الدول الإسلامية من حيث عدد السكان، بل بوصفها مثالا باهرا لديمقراطية صاعدة تعمل على تنمية اقتصادها، وتمثّل كذلك أمة مسلمة متسامحة مع الديانات الأخرى، وحققت إنجازات "تبيّن أن الديمقراطية والتنمية تعزز إحداهما الأخرى"، حسبما قال في خطابه في العاصمة الإندونيسية. غير أن أوباما لم يتطرق إلى قضايا الإصلاح والديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية، وهي ليست من الأولويات، بالرغم من أن تصريحاته بشأن تلازم الديمقراطية مع التنمية في إندونيسيا، يمكن اعتبارها إشارة مبطنة لهذه الدول كي تحاكي نموذج الدولة الإندونيسية الآسيوي. وهو لا يريد ممارسة الضغط على الدول الصديقة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ لأنه يدرك تماما أن له مصالح اقتصادية وسياسية معها، وأن الضغط عليها لن يؤدي إلى أي نتيجة.
والناظر فيما تحقق بين خطابي القاهرة وجاكرتا بخصوص علاقة الولايات المتحدة بقضايا العالم الإسلامي يجد أن المحصول شحيح جدا، فانقضاء أكثر من عام ونصف على خطاب القاهرة يبدد كثيرا من النوايا الحسنة التي أطلقها باراك أوباما في العالم الإسلامي، حيث ما زالت الحرب في أفغانستان على أشدها، والانسحاب المزمع من العراق لا يعدو أكثر من إعادة انتشار في ظل تردي الأوضاع العراقية وانهيار الدولة. ولم يتحقق وعد أوباما بإغلاق معتقل جوانتانامو سيئ الصيت. والأهم هو أن الإدارة الأمريكية لم تضغط على الطرف الإسرائيلي المتشدد، ولم تبذل الجهد الكافي لوقف الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية؛ بغية الوصول إلى حلّ الدولتين. ويبدو أن الرئيس أوباما لم يجد سوى التحدث في خطابه في جاكرتا عن "أن السلام في منطقة الشرق الأوسط لا يزال صعب المنال"، وأنه "يجب ألا نتوهم أن السلام والأمن سيتحققان بسهولة"؛ كونه يسير في نهج ينهض على تفادي إغضاب إسرائيل، ويتفوق هذا النهج على رغبته في حل القضية الفلسطينية، فضلا عن أولوية قضايا المجتمع الأمريكي ستحل محل أي مساحة مخصصة للاهتمام بقضايا العرب والمسلمين في أي استحقاق قادم أمام الرئيس الأمريكي.
وإن كان الرئيس الأمريكي قد لقي في القاهرة ترحيبا بالغا، وقوبل خطابه فيها باهتمام كبير وبثقة عالية، وعلقت عليه آمال عريضة، وعلى قدرته في تغيير الواقع في الشرق الأوسط وعلى إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، والعمل على وقف اضطهاد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وسواها، وكبح غطرسة حكام إسرائيل الذين باتوا يتصرفون خلال السنوات الأخيرة من دون رادع أو رقيب. غير أن الأمر مختلف مع خطابه في جاكرتا، حيث لم ينل ذات الترحيب والاهتمام، بل قوبل باللامبالاة، خصوصا خارج إندونيسيا؛ لأن الثقة لدى أوساط واسعة من العرب والمسلمين في قدرة أوباما على تحويل كلامه من مجرد كلمات تحمل وعودا طنانة إلى واقع عملي باتت مهزوزة وضعيفة. وهناك من يرجع تكراره للعبارات التي تحمل الوعود نفسها إلى مجرد محاولة تبرير لعجزه عن تحقيق مضامين الوعود، وأن المبررات التي سيقدمها أوباما ستكون أكثر من المبادرات التي قد يقدم عليها؛ لذلك يشعر جمهور واسع من العرب والمسلمين بأنه لم يتحقق شيء من وعود أوباما، وأن الذي تغير هو لغة الخطاب تجاه العالم الإسلامي، بالابتعاد عن مصطلح الحرب على الإرهاب وشؤونه، لكن ما يتمنونه ويريدونه لم يتحقق بعد.

الأولويات الاستراتيجية
نهضت أسس الاستراتيجية الأمريكية منذ زمن طويل على أولوية مواجهة، ما وصفه صانعو السياسة الأمريكية، بالتهديد الذي أخذ أشكالا مختلفة، ففي فترة الحرب الباردة كان التهديد يعني مواجهة الاتحاد السوفياتي، أما بعد الحرب الباردة فإنه أخذ مفاهيم وأشكالا أخرى، مثل مواجهة "الدول المارقة"، و"الإرهاب، و"تنظيم القاعدة"، و"الإسلام الأصولي"، وهم جميعا في المفهوم الأمريكي يعنون أعداء المصالح الأمريكية.
ولا يزال هناك في الولايات المتحدة من يعتقد بأن حربا ستنشب ما بين الولايات المتحدة وبين العالم الإسلامي في منتصف القرن الـ 21 الحالي، حيث يتحدث جورج فريدمان، هو باحث أمريكي في المستقبليات، في كتاب أصدره أخيرا تحت عنوان "الـ 100 عام القادمة.. تكهنات للقرن الـ 21"، عن حرب مع تركيا، تتم بأسلحة مذهلة، قاعدتها الفضاء الخارجي، وستكون تركيا قادرة على تحدي الولايات المتحدة عسكريا، وتوجيه ضربة مبكرة مفاجئة واستباقية لها، حسبما يتهيأ له. ويرى أنه "إذا ما استعرضنا بداية القرن الـ 21 باعتباره فجر العصر الأمريكي، سنجد أنه قد بدأ بقيام مجموعة من المسلمين بالسعي إلى إعادة إحياء الخلافة، وهى الإمبراطورية الإسلامية العظيمة، التي امتدت في مرحلة ما من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي".
ويعتبر فريدمان "أن هدف الولايات المتحدة، ببساطة، هو تمزيق العالم الإسلامي، وزرع الفوضى فيه، وتأليب أطرافه بعضها ضد بعض، ذلك أنه يمكن منع بزوغ الإمبراطورية الإسلامية بهذه الطريقة"، ولا شك في أن هذا الكلام يجد صدى واسعا، سواء داخل الولايات المتحدة أم خارجها في البلدان العربية والإسلامية. وبالرغم من أن تكهنات فريدمان بنشوب حرب بين الولايات المتحدة وتركيا هي أقرب إلى خيال لا يملك أي معطى واقعي، إلا هناك قوى اليمين الأمريكي التي ما زالت تتحدث عن الخطر أو التهديد الإسلامي.
وقد ارتبطت السياسة الخارجية الأمريكية باستراتيجية وضعت لمواجهة مثل هذه التهديدات، وترافق ذلك مع ابتكار ووضع استراتيجيات نهضت على مفهوم "الردع"، ثم "مكافحة الإرهاب"، وأخيرا "الدرع الدفاعي الصاروخي". وكان هدف الاستراتيجية الأمريكية في جميع المراحل هو الحفاظ على المصالح الحيوية الأمريكية في مختلف بقاع العالم المختلفة، والتي اصطلحت على تسميتها، بمناطق الديون القومية، وهي المناطق التي التزمت تجاهها مختلف الإدارات الأمريكية، التي تعاقبت على البيت الأبيض؛ دفاعا عن المصالح الأمريكية.
ولا شك في أن إدارة الرئيس أوباما تبحث، اليوم، عن السبل الأفضل لضمان المصالح الأمريكية في مختلف دول العالم الإسلامي، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك فهي مستعدة للتحاور مع "معتدلين" من حركة طالبان وسواها، إن كان ذلك سيساعد في إيجاد استراتيجية خروج من المستنقع الأفغاني، بعد أن جرّبت الانفتاح على العشائر والحركات الإسلامية في العراق، ونجحت في إشراكها في "العملية السياسية". ويعي أركان الإدارة الأمريكية الجديدة أن الحرب ليست الطريق الأفضل لضمان المصالح في عالم اليوم، خصوصا بعد المأزق الكارثي في العراق وفي أفغانستان، وما عليهم سوى "مدّ اليد" والحوار مع "المعتدلين" من أعداء الأمس. وقد طرأت متغيرات عديدة طاولت توجهات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة، وذلك في سياق المراجعة التي أخذت تجريها هذه الإدارة فور وصولها إلى البيت الأبيض، وشملت مجمل ما خلّفته السنوات الثماني لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش من كوارث وأزمات وتوترات في مختلف أنحاء العالم، خاصة مع العالم الإسلامي. ويمكن الحديث عن نهج يفترق عن الإيديولوجي والراديكالي في التفكير السياسي الأمريكي، وتغيب عن مفرداته مصطلحات "الدول المارقة" و"محور الشر" و"نشر الديموقراطية" وفسطاطي الخير والشر البوشيين.
غير أن مدى التغيير الذي أحدثه الرئيس باراك أوباما، مرتبط بالمسار الذي بدأته إدارته حيال قضايا منطقتنا، من خلال الإشارات العديدة التي أخذت تُشكل ملامح السياسة الأمريكية الجديدة حيال العراق والقضية الفلسطينية وسورية وإيران وأفغانستان، وهي لا تمثل تحولا كبيرا في النظرة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي وكيفية حله، بالرغم من أنه يتضمن مؤشرات تشي بأن الإدارة الأمريكية الجديدة تضع مسألة حلّ هذا الصراع بين أولوياتها، وأن تعاملها معه سيُبنى على العناصر التي أفرزتها العملية السياسية خلال الأعوام الماضية، خصوصا مفهوم حلّ الدولتين. وبالرغم من عودة الولايات المتحدة إلى التعامل الجاد مع القضية الفلسطينية، بوصفها قضية المنطقة المركزية، إلا أنه من الصعب فك أسر السياسة الخارجية الأمريكية من المركزية التي بنتها الإدارات السابقة، وبالتالي من الصعب كسر التوتر والاحتقان في منطقة الشرق الأوسط والوصول إلى حلول تؤمن الانسحاب الأمريكي "المسؤول" من العراق، وإيجاد مخارج للمأزق الأمريكي في أفغانستان، وللوضع المتأزم في فلسطين، وتحويل الملف النووي الإيراني إلى مسألة دولية، بعد أن كانت الإدارة الأمريكية السابقة تعتبره مسألة أمريكية فقط.

الملفات والتحديات
الواقع، أن الاستراتيجية الأمريكية، على الرغم من وعود باراك أوباما بالتغيير، لا يمكنها الإفلات من التوجه العام الذي يعطي الأولوية لتحقيق أهداف ومصالح الولايات المتحدة، ومن ضمنها حماية "أمن إسرائيل"، فضلا عن أن ما ينتظر إدارة الرئيس الأمريكي في النصف الثاني من ولايته يشكل تحديا قويا، ليس لمجمل السياسات المتبعة، وإنما أيضا لمستقبل الولاية الثانية التي يتطلع إليها، وبالتالي هناك جملة من التحديات تنتظره والتي من الصعب التملص منها أو تهميشها، بالنظر إلى موقعها في الأجندتين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة في المرحلة المقبلة. وإن كانت البداية من الشرق الأوسط، فإن الوضع في لبنان عاد إلى الاهتمام الأمريكي من جديد، حيث استعادت الإدارة الأمريكية لهجتها العالية، بعدما تراخت وخف حراك مسؤوليها خلال الفترة الماضية. وهناك العلاقات الأمريكية - السورية، حيث ارتفعت وتيرة التصعيد الأمريكي حيال القيادة السورية على خلفية موقفها الداعم لحزب الله، وتجدد الحديث عن الطموحات السورية النووية، وحثها على التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما الحرب في أفغانستان، فيلتقي على دعمها الديمقراطيون والجمهوريون، وسبق أن اتفقوا في عام 2009 على إرسال أكثر من ثلاثين ألف جندي، لكنهم اختلفوا على توقيت الانسحاب المقرر في تموز (يوليو) من العام 2011، وبالتالي يبرز التساؤل حول إمكانية تنفيذ الانسحاب أو مقابل بقاء الولايات المتحدة في المستنقع الأفغاني بعد انسحاب معظم القوات من العراق. ويبقى الملف الإيراني من أكثر الملفات سخونة، بالرغم من أن التعامل الأمريكي مع إيران شهد مرونة ملحوظة في السنتين الماضيتين، بالمقارنة مع ما كان عليه في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، والأمر متوقف على ما ستسفر عنه المحادثات المنتظرة بين إيران ومجموعة الست، وعلى إمكانية متابعة الرئيس باراك أوباما نفس النهج في التعامل مع إيران في ظل تشدد الجمهوريين حيال التعامل مع إيران الملف، والضغط الإسرائيلي باتجاه توجيه ضربة عسكرية لإيران.
ويرى عديد من الباحثين والمحللين في الشرق الأوسط، أن تحالف واشنطن الوثيق مع إسرائيل يجعل من المستحيل إنهاء معاناة الفلسطينيين؛ الأمر الذي يغذي مشاعر السخرية بين العرب والمسلمين تجاه الأولويات السياسية للولايات المتحدة بالمنطقة، بالرغم من إمكانية وجود إصرار لدى الرئيس باراك أوباما على إحراز تقدم في عملية التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو يعمل في وضع صعب جدا، خصوصا مع تشدد حكومة اليمين الإسرائيلي التي تعرقل أي تحرك نحو السلام، الأمر الذي يشي بأن المناخ الحالي لا يساعد على تحقيق تقدم في الملف الفلسطيني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي