رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هدنة مع النباتات والحشائش .. في عالم يموج بالدم الحرام!

مكاسب الحج كثيرة, وكثيرة جدا, منها مكاسب سياسية, واقتصادية, واجتماعية, وتربوية, وإيمانية... إلخ, ولهذا ينبغي اقتناص هذه المكاسب كلها؛ حتى تتواءم المكاسب مع ما تبذله الدولة من جهود كبيرة في سبيل بناء المشاريع, وتقديم الخدمات, وتذليل العقبات, وهذا يستدعي أن تحرص الدولة وكل من فيها من علماء ودعاة ومثقفين وأكاديميين... إلخ, على استدعاء الفرص, والظفر بأكبر مكاسب ممكنة من الحج, لا سيما أن بلادنا تمثل عمقا إسلامياً للشعوب المسلمة, أما الانشغال في خصومة مع مؤسساتنا الدينية, وثوابتنا الدينية, ومحاولة الزج بنسائنا في مهن ممتهنة لبنات جنسها في بلاد النفط, ورفع الصراخ عاليا, وفي هذا الظرف بالذات, فهو مخجل حقا.
لن أتحدث عن الشأن المحلي, وما يقع في وسائل الإعلام الرقمي والورقي من نزاع ساخن تجاه بعض القضايا الخاصة بالشأن السعودي, ومنها مأساة الانقضاض على مؤسسة الفتوى الرسمية, والتطاول عليها في وضح النهار, بعدما أصدرت فتوى لم ترق للبعض..! كلا..
ولكني في محضر الحج المهيب, حيث المحضن الجامع لكل المسلمين, ولكل الأعراق, والطوائف, واللغات, هذا المحضن الكبير الذي لا يقدم دروسا للشعوب المسلمة فحسب, بل يقدم دروساً للعالم أجمع, ممن يرقبه من بعيد, ويعرف قوانينه ونظمه من قريب, فقوانين الحج موجودة حتى في كتب المستشرقين, فهل وصلت قوانينه ''نقية'' إلى دول العالم وشعوب العالم لتعي جيدا ما يقدمه الحج في الشأن السياسي والاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي, وفي شأن الإنسان والحيوان والنبات والجماد, إنني أشك في ذلك.
إن الحج والحاج الملتزم بقوانين الحج وأحكامه, والمحرم الممتثل لحرمة الحرم والأشهر الحرم, كل هؤلاء يقدمون دورات مجانية لكل من تورط في حوادث قتل طائفية, أو عرقية, أو تسبب في قتل آمن مسالم, لا بل كل من تسبب في قتل حيوان أو قَطْع شجرة أو نبات أو حشيش, ليقول له الحج, والحرم, والإحرام: لا تقطع شجرة آمنة في الحرم, ولا حشيشاً آمنا في الحرم, ولا تصطد حيواناً آمنا في الحرم.. كف عن ذلك كله, ولهذا فرّق فقهاؤنا بين قطع الشجر المؤذي فأجازوه, وقطع الشجر والحشيش غير المؤذي - النابت بنفسه - فمنعوه, وفرقوا بين قتل الحيوان المؤذي والفواسق – كالحية - فأجازوه, وبين صيد الحلال المسالم فمنعوه.
الله.. الله.. الله.. إنها تربية على عدم قطع الحشيش المسالم.. والشجر المسالم.. وعدم سفك دم الحيوان المسالم.., فكيف إذن بالدم الحرام..؟!!
وهذا الدرس ليس في الحج والحرم والإحرام, بل في الأشهر الحرم التي منعت من التعدي على الدم الحرام؛ لتضع حداً لاسترخاص الدم البريء والمسالم والمهادن, ليتعلم عالمنا اليوم الذي يموج بالدماء البريئة, التي تسفك في كل دار, وفي كل زقاق, بأن الدم خط أحمر, لا يستباح إلا بحقه.
وهكذا الأموال المعصومة, والأعراض المصونة, كما قال ــ صلى الله عليه وسلم ــ في خطبة حجة الوداع (كل المسلم على المسلم حرام, دمه, وماله, وعرضه).
فالحج درس لحقن الدماْء, وهكذا الحرم, والإحرام, والأشهر الحرم, وهي تمثل ثلث شهور العام, وهذا الدرس الأخلاقي والتربوي ألمح إليه الإمام القرطبي (ت671هـ) قبل مئات السنين, أي قبل أن ينشأ ما يسمى بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحقوق البيئة, بل نزل هذا التشريع الإلهي قبل أكثر من أربعة عشر قرنا, حين أنزل الله تعالى قوله: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام..)، وقد علق الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ على هذه الآية بقوله: ''قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس, والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة, والقتل والثأر، وعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه, قال العلماء: فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف, جعل الله الشهر الحرام ملجأ آخر, فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا أي نفسا, ولا يطلبون فيها دما, ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. واقتطعوا فيها ثلث الزمان. ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة, ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام'' والإمام القرطبي يشير هنا إلى اتصال الأشهر الحرم وانفصالها, فذو القعدة وذو الحجة والمحرم متصلة, وكلها أشهر حرم, ورجب منفصل, وهو شهر حرام, وبهذا تتوالى دورات السلم الشهرية لتحمل النفوس على المسالمة في اتصال متوال, ثم انفصال.. لالتقاط الأنفاس, وشحن النفوس بالإيمان, من أجل تهذيب النفوس الوالهة في الدماء والأعراض والأموال, إنها هدنة في الزمان والمكان, وهدنة مع النباتات والحشائش, وهدنة مع الطيور والغزلان وحمر الوحش, إنها دروس ذات دلالات عميقة.. في عالم يموج بالدم الحرام..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي