اقتصاديات طب الحشود البشرية (2 من 3)
بعد تسليط الضوء على أهم الأسس التي تستوجب اعتبارها في تخصص شد اهتمام جميع المنشغلين بسلامة حركة التجمعات البشرية في أي مكان في العالم، يمكن أن نعرج على وضع أطر الصورة النهائية. أعتقد أن هناك حاجة إلى الاستقرار على توحيد المصطلحات والتعاريف المستخدمة بين المتخصصين في الطب والعلوم الطبية حتى يكون هذا التخصص أكثر توجها وتوجيها من غيره من العلوم وفرعها بعد أن لمسنا المفارقات في مدلول كثير من المصطلحات أكاديميا. إننا في حاجة أيضا إلى وضع معايير للأداء لئلا تزيد نسبة الخطأ عند وضع القرار على 3 في المائة وبحد أعلى على 5 في المائة. وبالتالي يكون التركيز على معايير تقديم الخدمة الصحية عامة المفترض تقديمها على أساس أن ''قيمة الخدمات الطبية المقدمة تساوي مجموع تكلفة ما يقدم في المرافق الصحية المخصصة للخدمة سواء كانت إنشائية أو تجهيزية أو بشرية. بالطبع لا بد أن نعتبر أن هناك تكاليف متغيرة لبعض العناصر ومنها الأدوية والمستلزمات المخبرية والتغذية بأنواعها والنقل من وإلى مناطق الحج. قد يناقش المتخصصون عملية إتاحة الخدمة الطبية للجميع بأنها مستحيلة وأن الخدمات الطبية لا يمكن أن تغطي احتياجات الجميع في أي وقت في أي قطر في العالم. في هذه نقول في المملكة تقدم الخدمات الصحية لجميع ضيوف الرحمن في موسم الحج دون اختيار أو تحديد لهوية أو جنس أو عمر أو لون في المرافق الصحية كافة في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال الموسم. هذا لأن تقدير هذا البلد الأمين أهمية إقامة الشعيرة نابع من عقيدة وواجب تجاه الإسلام والمسلمين ــــ ولله الحمد.
سيكون من الطبيعي صعوبة تحديد تكلفة التشغيل الحقيقية للخدمات الصحية في أي من المنطقتين, سواء في موسم الحج أو موسم العمرة من خلال بيانات عام واحد أو حتى خمسة أعوام. إلا أن القادم يبشر بخير إذا ما تم الاعتماد على استخدام منهجيات مختلفة للدراسة مثل تبني برامج المحاكاة Simulation؛ حيث ستجمع البيانات السابقة والحديثة (ورقية ورقمية) وستتم معالجتها باستخدام النماذج الرياضية المختلفة لتوقع أفضل الطرق لمواجهة الوباء وتوخي الحذر والتعامل مع المصابين ومستوى انتشار المرض وتحديد تكلفة العلاج ووضع بداية ونهاية السيناريوهات بشكل علمي صحيح. وستكون الإجراءات الوقائية أولوية تتم مناقشتها والعمل عليها على مدار العام وليس قبل أو خلال موسم فقط. وما المحاكاة (في مثل هذه الحالات) إلا تمهيد لتفعيل خدمات حية لها التأثير نفسه وبشكل متوازن في المرافق الصحية كافة.
وقائيا من المعروف أنه لا يمكن أن ندعي كبح تصاعد تكاليف برامج الوقاية الصحية, وبالتالي من الصعب ادعاء التوفير فيها. لكن لا بد أن نجعل الصرف موجها ومبرراً ومستغلا إلى أبعد الحدود ومُثْبتا بالقياس والتحليل المنطقي. لذلك لا بد من وضع تصور لحجم المخصصات المطلوبة لتغطية تكاليف موسمي الحج والعمرة وتسميتها في ميزانية الوزارة والوزارات المعنية بشؤون الحشود الصحية. وبنهاية كل موسم وفي نهاية كل ميزانية تكون المقارنة الرياضية كنوع من التدليل لتصورات معينة (وليس كامل الصورة) لعلمنا بأن الأرقام وحدها لا تمثل دائما ما حصل ويجب أن يحصل. إضافة إلى ذلك لا بد من تعزيز دور الجهات الحكومية المقدمة للخدمات الطبية من ناحية صرف المخصصات، فالمفترض أن تتمتع بحرية المناقلة بين البنود لاستغلال المبالغ المرصودة لمشاريع تعثرت، ولا يعتقد أن هناك إمكانية لصرفها خلال السنة المالية، وتوجيهها لبرامج التوعية والتثقيف الصحي والتطعيمات والإجراءات الوقائية في مناطق الحشود والممكن أن تنتشر فيها الأوبئة. أما من ناحية إشاعة ثقافة التوفير على المدى الطويل حتى يكون التخطيط منطقيا ويتم تحقيق أكبر استفادة من الميزانية، فقد يكون إلزاميا من الآن فصاعدا إشراك القطاع الخاص والأجهزة المقدمة للخدمات الطبية المتقدمة في مسؤولية التموين الطبي والتغذية العلاجية وتجهيز المستشفيات في المشاعر المقدسة وإمداد المرافق الصحية في المنطقتين بأفضل مقدمي الخدمة المختصين، كمسؤولية وطنية يمكن أن تسهم كثيرا في تعزيز البرامج الصحية في الموسم.
دوائياً، يمكن الاستفادة من بيانات وزارة الصحة في حجم وكم وماهية الأدوية المصروفة سواء في العيادات الخارجية أو أثناء تنويم الحجاج في كل المرافق الصحية الحكومية في مناطق الحج (مكة المكرمة بمحافظاتها المختلفة والمدينة المنورة أيضا). قد تتكرر العوامل المؤثرة في التعبئة كل عام مثل: المناخ والكثافة البشرية ونوع الأوبئة المنتشرة (إن تم التبليغ عن ذلك) وموقع المرفق الصحي ووظيفته ... إلخ، لكن سيكون لسلوكيات الحشود أثناء تنقلهم أو سكونهم تأثير لا بد من دراسته ونحن نسعى إلى تقنين أداء الشعائر كل عام فتكون الرعاية والعناية الصحية في أفضل حالاتها ــ بإذن الله. لذلك فقد تبنى العلاقة بين العناصر بشكل مختلف على أساس اعتبار أن الضيف (الحاج أو المعتمر) غير العارف والجاهل بمعظم المعلومات المفترض الإلمام بها دينياً وأمنياً وصحياً، يحتاج إلى المضيف (مقدمي الخدمات الاجتماعية والصحية والأمنية) خلال فترة الموسم في المواقع المذكورة لإكمال الشعائر وإنجاح أدائها حسب أوامر الله ــ سبحانه وتعالى ــ في سكينة وصحة وعافية. وللحديث تتمة.