ما بين القانون والتأمين .. حكاية مصطلحات
هل حقاً نحن نهتم بالمسميات أكثر من المضمون؟ وهل من الممكن أن يُؤثر المُسمّى بل ويكون أحد العوامل الرئيسة لحسم المسائل التي يبحثها المهتمون بالمستجدات التي تفرض نفسها على حياتنا المعاصرة؟ وبعيداً عن التشخيص، فإن الإنسان بطبعه ينظر بريبة للجديد. كما أن هذه النظرة تكون مُلاحظة بشكل أكبر إذا وُلد هذا الجديد في بيئة مغايرة أو في ظروف تختلف عن تلك الظروف أو تلك البيئة التي يأتي إليها هذا الجديد.
ونحن إجمالاً مجتمع (قياس) من الطراز الأول، وهو أمر منطقي ولكن إعمال القياس فيما لا يحتمل مسألة فيها نظر. وفلسفة القياس لدينا هي طالما أنه يمكن أن يُقاس هذا الجديد على أمر مألوف لدينا ويتوافق معه في العلة والغاية فنِعم به, وإلا فلا مناص من الأخذ والرد وبذل المحاولة تلو المحاولة لقبول هذا الجديد بعلته وبغاياته التي لم نجد لها نظيراً.
ولعل أبسط مثال على ذلك هو أن السيارة عندما دخلت الجزيرة أول مرة لم تُجابه بمعارضة كتلك التي جُوبهت بها مخترعات مثل الراديو والبرقيّات ومايكروفونات المساجد. فالسيارة تم قياسها على الدابة وقُضي الأمر، أما البرقيات والمذياع والميكروفونات فلم يتم التعرف عليها إلا من خلال مفهوم السحر وأعمال الشياطين، وكانت المقاومة ضد الاستفادة من هذه المخترعات حينها على أشدها.
وبعيداً عن المخترعات نجد كذلك أنه حينما دخل مصطلح القانون قاموس المجتمع لأول مرة تم النظر إليه على أنه بديل للشريعة، ولم يكن هذا المسمى مرحباً به البتة، وتم استبداله بمصطلح النظام وبالتالي لم يجد هذا الأخير مقاومة كتلك التي وجدها مصطلح القانون، رغم أن وظيفة الاثنين واحدة وإجراءات سنهما واحدة. فكلاهما في حقيقة الأمر واحد وإن اختلف المسمى.
فالقانون والنظام يتضمنان القواعد التي تنظم أمور الدولة والمجتمع وهو يدخل ضمن مسائل الاجتهاد التي هي روح الشريعة الإسلامية والعامل الأساس في مرونتها وتوافقها مع كل زمان ومكان. ولذلك فالنظام هو اجتهاد ولي الأمر في المسائل التي تركت الشريعة الإسلامية له صلاحية التنظيم بحكم ولايته لأمور المسلمين. وهذه المسائل تخص في الغالب الأمور الحياتية المتغيرة.
ولنا أن نتخيل أننا لو لم نجد حلاً لمسمى القانون فكيف ستكون حياتنا من دون نظام؟! بل إننا ما زلنا نعاني من ترسبات لهذه الحساسية المفرطة تجاه هذا المصطلح.
وفي مجال التأمين نجد أن هذا المسمى نال حظه من الحساسية المفرطة والتي نالها قبله مصطلح القانون أو النظام. ومع أن التأمين أول ما بدأ قد بدأ بنظام مستقل، وكان يخص التأمين الصحي التعاوني إلا أن تسمية هذا النظام بالضمان الصحي بدلاً من التأمين الصحي آتت أُكلها ولم يُجابه التأمين الصحي بالمعارضة التي جوبه بها تأمين المركبات فيما بعد. فقد مر التأمين الصحي كنظام مرور السلام، وهي خطوة ذكية تطلبتها تلك المرحلة. وحتى نعرف مدى قرب تسمية التأمين إلى تسمية الضمان فإن هذا الأخير وكما هو معروف مصطلح شرعي راسخ وهو يعني التعهد والكفالة والالتزام وانشغال الذمة بحقوق الغير.
وإجمالاً فإن الضمان في الشريعة الإسلامية يحوي مدلولاً واسعاً، إلا أن عموم اللفظ لا يمنع من تخصيص استخدامه وربطه بمدلول معين، فهناك ما يسمى أيضا بضمان العقد وهو بهذا المعنى يمكن أن يكون وصفاً لما يكون عليه التزام المؤمن (شركة التأمين) في مواجهة المؤمن له أو المستفيد، ولعل هذا السبب هو الذي دفع بالمنظم السعودي إلى تبني إطلاق اصطلاح الضمان على التأمين وذلك بالنسبة لنظام الضمان الصحي التعاوني. فمضمون النظام لا يختلف البتة عما هو عليه الأمر بالنسبة لأنظمة التأمين الصحي المعاصرة وفق مسمياتها التي تعبر عنها بمصطلح التأمين الصحي.