«ساهر» .. عادل أم جائر..؟
قبل نحو شهر أو أكثر كنت جالسا مع أسرتي في (هايدبارك) التخصصي على ضفاف الشارع بناحيته الشمالية, في الطريق المؤدي إلى الثمامة, وكان ذلك ليلا؛ لنستمتع جميعاً بنسمة الليل التي تهب علينا ابتداء من الأسفلت, مروراً بتربة المخططات المجاورة, لتعود علينا بنكهة جو منوع, وممتع للغاية, وكما قيل: ''القرد في عين أمه غزال'', ثم الذي أضاف للجو طابعاً آخر من الأريحية, أنه كان بجانبنا كاميرا من كاميرات ''ساهر'', وقد كان فلاشها الساهر يومض كالبرق كل نصف دقيقة أو أقل, فكانت تعبر ثلاث سيارات أو أربع, ثم تقع السيارة الخامسة في شراكها, وهكذا طوال بقائنا تلك الليلة, فلو كانت المخالفة مثلا بقيمة 300 ريال, وكانت عدد الدقائق في اليوم 1440 دقيقة×2 مخالفة = 2880 مخالفة, فهذا يعني 2880× 300 = 864000 ريال في اليوم, وفي الشهر بمبلغ 25920000 ريال, أي: قريباً من 26 مليون ريال من كاميرا واحدة في الشهر, وحتى أكون منصفاً, فإن المخالفة في اليوم الواحد لا يمكن أن تكون على وتيرة واحدة, فالمخالفات في أول الليل ستكون أكثر منها في آخره, بحسب انخفاض عدد السيارات, ومواعيد العمل, وانتقال الأسر حسب السائد, ولهذا لو خفضنا عدد المخالفات إلى ''النصف'' مثلا - حتى لا نبالغ - لوجدنا أنها ستكون في اليوم الواحد بمبلغ 432000 ريال, وستكون في الشهر الواحد بمبلغ 12960000 ريال, أي قريباً من 13 مليوناً في الشهر الواحد من كاميرا واحدة, ومع حشد أعداد المخالفات الأخرى في الرياض والمدن الأخرى ستكون المبالغ بأرقام فلكية, ولهذا ستكون مبالغ المخالفات منافسة لبعض إيرادات الدولة, هذا إذا كانت مورداً عاماً, وليست خاصة لجهة ما.
وقبل أن أدخل في مناقشة هذا الكم الهائل من المبالغ, أثير انتباه قرائنا الكرام لموقف فقهائنا من حكم التعزير بالمبالغ المالية, فقد اختلف العلماء سابقاً في حكم ذلك على قولين: فالأصل في مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز التعزير بأخذ المال, ومذهب جمهور العلماء هو جوازه من حيث الجملة, وهذا هو الذي استقر عليه العمل اليوم منذ عصور قديمة وإلى اليوم, وهو جواز التعزير بالمال, سواء كان بإتلاف المال كما في المصنوعات المغشوشة مثلا, أو كان بتغيير جنسه كما في تغيير التماثيل المصنوعة بالرخام مثلا, في فك الرخام, ويصنع منه شيء آخر مباح, أو كان التعزير بمصادرة المال, كما في مصادرة أموال الرشوة, أو كان التعزير بالتمليك بأخذ المال مقابل مخالفات محددة, ووضعها في خزانة الدولة, كمبالغ المخالفات المرورية, إذن, فهي جائزة من حيث الأصل, لما فيها من المصلحة العامة, وهي في نظام المرور مصلحة الزجر عن قطع الإشارة أو السرعة الزائدة عن الحد, أو غير ذلك, وقد حفلت بلادنا بالعديد من أنظمة الجرائم التعزيرية, ومنها التعزير بالمال. وفقهاؤنا رحمهم الله, وإن استقر رأيهم على الجواز من حيث الجملة, إلا أنهم أكدوا ضرورة ألا يكون أخذ المال مجحفاً بصاحبه, حتى لا تتحول الغرامة إلى ضريبة, وهذا هو أحد الأسباب التي دعت المانعين من التعزير بأخذ المال؛ لئلا يكون القول بالجواز ذريعة إلى استباحة أموال الناس بغير حق.
إنني لست رجل مرور ولا متخصصاً في مجال الأمن, كما إني لست ممن يتجاهل كثرة الحوادث في بلدي, وأثرها السلبي في إزهاق الأرواح, أو إتلاف الأعضاء والأموال, وضرورة وضع حد لهذا الاستهتار, ليجيء نظام ساهر ويضع حداً لهذه الآثار, كما صرح بذلك واضعو النظام, ومهندسوه. ومن هنا جاء المقال ليثير بعض التساؤلات عن هذا النظام.. لا عن شرعيته, ولا عن أثره الإيجابي, كلا, ولكن عن حجم المبالغ التي يستهدفها, وهل هي في حدود المعقول أم لا..؟
وآمل أن يأخذ المسؤول والقارئ مقالي هذا على سبيل إثارة الرأي الآخر ليس إلا, طبعاً إن كنا نؤمن بفكرة قبول طرح الرأي الآخر؛ للنظر في أي الرأيين أو في أي الآراء التي يمكن أن تسهم في نهضة بلادنا والرقي بها. أما إذا كنا لا نؤمن إلا بحد رأي أحادي وانفرادي, فهذه مسألة أخرى..
لا أشك أن نظام ساهر بمبالغه الطائلة سيحد من المخالفات المرورية, ولا أحتاج إلى حصر استطلاعي للتعليق على هذه النقطة, بل إني أجزم أن المخالفة لو زادت إلى ضعف ما هي عليه الآن ستضيق المخالفات بشكل أكبر, ولو زادت إلى أضعاف ستنتهي المخالفات بالمرة, بل سيخف العبء على الشوارع, ولو زادت العقوبة إلى السجن مع الأشغال الشاقة أو إلى قتل المخالف فلن يسير أحد بسيارته في شوارع المدينة, وسيستقل الناس الدراجات الهوائية, وربما لن نحتاج إلى إشارات ضوئية أصلا.
ما أعنيه هنا: أن التشديد في المخالفات سيولد نتائج سريعة قطعا, وهذا أمر يستوعبه كل أحد, وهنا أتساءل: هل هذا النظام جاء مواكباً لحملة تثقيفية كافية..؟ وهل وضعت الجهات المعنية بنية تحتية لإشارات المرور المختلفة - ومنها لوحات قدر السرعة – بما ''يكفي'' لتنبيه الغافل, وتذكير الناسي..؟ وهل هذه الغرامات مناسبة أم هي مجحفة..؟ لن أجيب عن السؤال الأول ولا الثاني, فقد تكلم فيه كثيرون, ولكن سأتعرض للثالث بنقاط متعددة, فأقول:
يجب أن نفرق أولاً بين من يقود سيارته بتهور, وبين غيره, فالمتهور يجب أن تسحب منه السيارة, لا أن يعطى مخالفة ثم يعود مجدداً إلى تهوره, لا سيما إن كان من الأسر الثرية التي تدفع الـ300 والـ500 ريال كما تدفع الثلاثة والخمسة ريالات.
وبالنسبة لعامة الناس, فعلينا أن نجري مسحاً لأصحاب الدخول المتوسطة والصغيرة, كم يمثلون في المجتمع..؟ ما تقوله الصحف على لسان اقتصاديين كثر, أن أحداث سوق الأسهم وتعثر العديد من المساهمات العالقة إلى اليوم أسهما في تضييق دائرة أصحاب الدخول المتوسطة, وتوسيع دائرة أصحاب الدخول الصغيرة.
ويبدو لي أن أصحاب الدخول الصغيرة هم الأكثر, لا سيما في ظل الغلاء الفاحش الذي تشهده عقاراتنا, سواء كانت أراضي للبيع, أو شققاً سكنية للإيجار, وفي ظل البطالة التي تشهدها بلادنا دون حل جذري لها, مع ثقافة الاستهلاك التي تستنزفها بعض العادات في بلادنا.
قبل أسابيع كنت مع سائق أجرة, فقال لي: علي حتى الآن مخالفات بخمسة آلاف ريال, ولا أدري كيف أسددها.., وأسدد حاجاتي الشخصية..؟
قد يقول قائل: لماذا وقع أصلا في المخالفات المرورية..؟ وقد يجيب آخر: وهل وجدت التحذيرات الكافية, كما هو الحال الآن في الدول المتحضرة..؟ وهذا ربما يعبر عنه تصريح الأمير مقرن بن عبد العزيز, وغيره.
وهنا لن أتحدث عن الأثر الذي يلحق بنا نحن ممن تزيد رواتبنا على 15 أو 20 ألف ريال, ولكن أتساءل: إذا كان راتب أو دخل المواطن: 1500 أو 2000, أو 2500 ريال, فكم تمثل له مخالفة بقدر 300 أو 500 ريال..؟ لاسيما مع المعطيات السابقة المشار إليها أعلاه, وشبه غياب الثقافة الممتدة لعشرات السنين. إنها تمثل بكل بساطة ثلث الدخل أو ربعه أو خمسه أو سدسه, فهو أشبه بنظام الميراث الذي يدخل بنسبة الثلث أو الربع أو الخمس أو السدس..!
إن الذي يحد من المخالفات بلا تكاليف باهظة على المواطن, هو تطبيق أنظمتنا المختلفة على الكل, الشريف والوضيع, والغني والفقير, بحيث إذا تعرض المفحط أو المتهور أو غيرهما للعقوبة لا يفرط منها في غمضة عين, على أساس حديث (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) أو ما يسمى في الاصطلاح المعاصر بسيادة القانون, وتخلف هذه السيادة هي مشكلة البلاد العربية إلى اليوم.
إننا نريد نظام ساهر على المفحطين والمتهورين وكل ضالع في انتهاك الأرواح أو الممتلكات أو الحقوق دون استثناء.