التوافق الأمريكي ـــ الإيراني على المالكي مصادفة أم مفاهمة تراجع أمريكي أم صعود للقوى الإقليمية؟
شكّل الإعلان عن بدء الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، المتوقع أن يستكمل مع مطلع العام 2012، ومن أفغانستان مع مطلع عام 2014، مؤشرا على تراجع في الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، نظرت إليه الدول الإقليمية الفاعلة في المنطقة بوصفه تطورا، يشكل فرصة بالنسبة إليها كي تلعب أدوارا جديدة، كونه يوفر نافذة مفتوحة للتعامل مع بعض الأزمات والملفات الشائكة في المنطقة، وذلك في سياق محاولاتها وسعيها إلى سدّ، ولو جزءا من الفراغ، الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي.
ويطرح تراجع وانحسار الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط أسئلة عديدة، تطاول طبيعة وأدوار القوى الإقليمية الصاعدة، خصوصا إيران وتركيا، التي تريد كل منهما أن تلعب أدوارا محورية في المنطقة، وتطاول أيضا طبيعة التحالفات الجديدة بين دول المنطقة، ومدى توافق أدوارها وعلاقاتها مع ما تريده وتسعى إليه الولايات المتحدة في المنطقة.
وفيما يثير الدور الإيراني حفيظة الإدارة الأمريكية وبعض الأوساط السياسية العربية، وبشكل خاص مصر ومعظم دول الخليج العربي، فإن الدور الإقليمي التركي، يحظى بقبول لدى بعض الأوساط العربية، ولدى الإدارة الأمريكية كذلك؛ نظرا إلى أن تركيا هي دولة أطلسية وديمقراطية، وتستخدم الدبلوماسية الناعمة والنشطة، وتسعى إلى توسيع دائرة نفوذها الإقليمي، وإلى تحسين فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى سعيها لإقناع الولايات المتحدة بحجز مقعد لها في النظام الدولي.
حيثيات التكهنات
لعلّ الأهم هو أن التراجع الأمريكي فتح الباب على مصراعيه أمام تكهنات وتخمينات حول إمكانية وجود صفقات وتفاهمات، سواء مكتوبة كانت أم غير مكتوبة، ما بين الولايات المتحدة وبين إيران وتركيا وسواهما. وهناك من المحللين السياسيين من يعتبر أن الانسحاب الأمريكي من العراق ومن أفغانستان مقصودا، يترافق مع دفع تركيا كي تلعب دورا محوريا في المنطقة بالتنسيق والتشاور مع الولايات المتحدة، بل وهناك من يعتبر الانسحاب إقرارا بأهمية الدور الإقليمي لإيران في المنطقة المحيطة بها.
وليس جديدا حديث الصفقات، كما أنه ليس غريبا عن عالم السياسة الدولية في عصرنا الراهن، الذي عرف صفقات عديدة بين أطراف مختلفة ومتصارعة على النفوذ والمصالح، بل وعرف التاريخ السياسي تسويات ومؤامرات ومكائد كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها. كما أن الصفقات ليست بعيدة عن العقل السياسي الأمريكي، المتأثر بعقلية اقتصاد السوق والتجارة الحرة، القائمة على الصفقات، فضلا عن أن العقل السياسي الإيراني، هو الآخر، ليس بعيدا عن عالم الصفقات، حيث توصف العقلية السياسية الإيرانية بعقلية ''البازار''، القائمة على المساومة والمماطلة، وهذا ما قد يفسر الحرص الأمريكي، بألا تقع الإدارة الأمريكية في شَرك الحنكة الإيرانية في المفاوضات والصفقات والمساومات.
غير أنه، ومع التدخل العسكري الأمريكي السافر والمباشر في منطقة الشرق الأوسط، تحدّث عديد من المحللين السياسيين والعسكريين في العالم عن وجود مؤامرة أمريكية ـــ إيرانية؛ نظرا إلى أن هذا التدخل العسكري المباشر أطاح بنظامين، كانا من أشد الأنظمة عداء للنظام الإيراني، هما النظام العراقي السابق ونظام طالبان، وبالتالي قدمت الولايات المتحدة في عهد إدارة جورج بوش الابن، من حيث تدري ـــ على الأغلب ـــ أو من حيث لا تدري، خدمة كبيرة للنظام الإيراني، لا تقدر بثمن.
واليوم، حيث تتحضر الإدارة الأمريكية للانسحاب العسكري من العراق، فإنها تنسحب منه لصالح النفوذ الإيراني الكبير في هذا البلد، والذي وصل إلى درجة أن المرشح لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، نوري المالكي، بات يحظى بموافقة إيرانية وأمريكية. وقد يكون التوافق الأمريكي ـــ الإيراني على المالكي مصادفة، لكنها مصادفة توحي بالكثير من التخمينات والتكهنات السياسية.
وعلى الجبهة الأفغانية، باتت الولايات المتحدة مقتنعة بأن لإيران دورا تلعبه في حل ما تسميه ''أزمة أفغانستان''، حيث أعلن ريتشارد هولبروك المبعوث الأمريكي إلى كل من أفغانستان وباكستان، الإثنين الماضي، في مؤتمره الصحافي في العاصمة الإيطالية روما، أن بلاده لا تعترض إطلاقا على أن تحضر إيران اجتماع مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بأفغانستان، بحجة أن إيران، بحدودها الطويلة والمفتوحة تقريبا مع أفغانستان وبمشكلتها الكبيرة مع المخدرات، ''تملك دورا في حل أزمة أفغانستان سلميا''. وهكذا، فجأة اكتشفت الولايات المتحدة أن لإيران دورها المهم في أفغانستان، وقبل ذلك اكتشفت دورها المهم في العراق! ثم ماذا بعد ذلك؟
أما فيما يخص الصراع العربي ـــ الصهيوني، فإن حديث الصفقات والمساومات تزداد وتيرته، بالرغم من الفشل الأمريكي، الذي أعلنه توقف المفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية المباشرة، بسبب رفض الجانب الإسرائيلي إيقاف النشاط الاستيطاني. وقد كشفت صحيفة ''واشنطن بوست''، أخيرا، عن عرض الإدارة الأمريكية صفقة لإسرائيل؛ بغية إيقاف الاستيطان لمدة شهرين فقط، تتضمن حوافز وضمانات كثيرة، والسبب هو استثمار وتمرير استمرار المفاوضات الإسرائيلية ـــ الفلسطينية في انتخابات الكونجرس النصفية المقبلة على الأبواب، التي يسعى الحزب الديمقراطي للفوز بها بقوة، وبأي ثمن. وهناك من يعتبرها السبب وراء الاستعجال عن إعلان انسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق. وبالفعل فقد اعترف السفير الإسرائيلي في العاصمة واشنطن، بأن الإدارة الأمريكية قدمت فعلا ضمانات لإسرائيل لإيقاف الاستيطان.
وعلى خلفية النقاش الأمريكي والأطلسي الدائر حول الحرب في أفغانستان، يجري البحث في أوساط إدارة الرئيس باراك أوباما عن خطط وصفقات سياسية، يمكن عقدها مع شخصيات معتدلة أو مع قواعد وتيارات معادية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا في أفغانستان وباكستان، حيث كشفت وسائل الإعلام العالمية في الأسبوع الماضي عن حثّ الإدارة الأمريكية الرئيس الأفغاني حامد كرزاي لإبرام صفقة تفاهم مع شخصيات من حركة طالبان، تصل إلى درجة تقاسم السلطة معها، إلى جانب دفع بعض القادة الباكستانيين المحليين إلى عقد لقاءات مع قادة وشخصيات من ''طالبان'' باكستان.
وكان لافتا ما أكده ديفيد بتريوس قائد القوات الدولية في أفغانستان بأن قوات حلف شمال الأطلسي كانت قد وفرت ممرا آمنا لقادة كبار في حركة طالبان، للسفر (بأمان) إلى كابول، من أجل إجراء محادثات مباشرة مع الحكومة الأفغانية. وقد أسهم الجنرال ديفيد بترايوس، الذي قاد الحرب في العراق إلى عتبة جديدة، في تمكين باراك أوباما من تنفيذ وعده بسحب القوات القتالية من المدن العراقية. ويتفهم هذا القائد العسكري ضرورة عدم التراجع في الحرب في أفغانستان، ذلك أن سحب القوات القتالية من العراق يتعلق بشكل أساسي بإعادة صياغة القدرات العسكرية في حرب أفغانستان، ولا يتنافى ذلك مع سعي الإدارة الأمريكية، ومعها المؤسسة العسكرية، إلى وضع خطوط بين التطرف السياسي والتطرف العنفي، ومع الرغبة في إبرام الصفقات حتى مع المتطرفين سياسياً.
من جهة أخرى، تحاول الإدارة الأمريكية، لقاء تقديمها مغريات معينة، دفع روسيا إلى ممارسة الضغط العسكري ضد التيارات التي تدعم طالبان والقاعدة في البلدان المتاخمة لأفغانستان، ودفعها إلى جهة القبول بعروض الصفقات التي تقدمها الإدارة الأمريكية، وذلك في سياق سعيها إلى تطويق حركة طالبان في كل من أفغانستان وباكستان؛ تحضيرا لانسحاب قوات الأطلسي منها، كي يكون الانسحاب مشرفا حسبما تريد أن سيكون، وألا يبدو انسحابا بطعم الهزيمة.
حلقات التفاهم والتباعد
لا شك في أن بعض القضايا والملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط في حاجة إلى مقاربة وظيفية، حسب وجهة النظر السياسية الأمريكية، ويريدها السياسي المخضرم ''كيسنجر'' أن تكون مقاربة جامعة أو موائمة ما بين الكونية والإقليمية، من جهة أن الولايات المتحدة ليست وحدها من يمتلك مصالح في أفغانستان في عالم اليوم، بل هناك عديد من الدول الأخرى، كإيران وباكستان والهند وصولا إلى الصين وروسيا، حيث ترى هذه الدول بأن لها مصالح حيوية في هذا الجزء من العالم، وبالتالي على الولايات المتحدة أن تكف عن اعتماد المقاربة الأحادية؛ لأنها لن تشكل حلا على المدى الطويل، نظرا إلى أن أي حلّ ناجع على المدى الطويل، يستلزم قيام ما يشبه الاتحاد بين الدول التي تجاور وتحمي أفغانستان بشكل ينسجم مع الخيار السلمي.
وهناك من يعتبر أن العراق من أسهل حلقات في التفاهم الأمريكي ـــ الإيراني، وذلك بالنظر إلى حرص الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي الانسحاب من العراق في أسرع وقت ممكن. ويسكن وراء هذا الاعتقاد قناعة مفادها أن الإدارة الأمريكية، في خضم تنفيذ عزمها على سحب قواتها العسكرية من العراق، وجدت في التجديد لنوري المالكي بعض المنافع التي تخدم خططها في العراق، مع أن أمره مرهون بأن تضم حكومته الجديدة القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي والقوى الكردية الفاعلة. قد يكون مهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة دعم تجديد ولاية المالكي؛ كونه سيضمن لها احترام وتنفيذ مختلف الاتفاقات والترتيبات التي أبرمتها مع الحكومة السابقة، لكن الأهم هو اعتقادها بأن تشكيل المالكي للحكومة الجديدة سيضمن حياد إيران وسورية، ودفعهما للتعامل بشكل إيجابي معها. وهو أمر تنظر إليه الإدارة الأمريكية ببالغ الأهمية ضمن سياق سلاسة وسلامة ترتيباتها في العراق، على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والعسكرية، حيث الأولوية تعطى للخطط الأمريكية قبل الانسحاب وبعده. ويبقى أن الحلقة العراقية هي أيضا حلقة تباعد؛ لأن الوضع في العراق ليس طيعا على الدوام حسبما تريده القوى الدولية والإقليمية، وقد لا ينفذ أي من مخططات الإدارة الأمريكية أو النظام الإيراني وسواها، ذلك القوى المتنفذة في الولايات المتحدة لن تقبل بهدر الاستثمارات الأمريكية في العراق وتسليمه إلى إيران، وبالتالي، فإن طريق الصفقة في هذا المجال طويل وشاق جدا، وقد لا يكون عراقيا فقط، بل إيرانيا ولبنانيا وفلسطينيا وسوريا.
قد تكون الحلقة الأفغانية متاحة لشكل أو لصيغة من التفاهم الأمريكي ـــ الإيراني، لكنها ليست كافية لتعبيد طريق التفاهم وتطبيع العلاقات ما بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، فهناك الملف النووي الإيراني، وهناك أيضا الوضع في لبنان وعملية التسوية المتعثرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولا يخفي النظام الإيراني سعيه إلى التفاهم والحوار، وإبرام الصفقات، سواء مع الولايات المتحدة أم مع دول الاتحاد الأوروبي وسواها، وهو ما أعلنه قادة هذا النظام في أكثر من مناسبة، وفعلوه وطبقوه في السنوات الأولى لاحتلال أفغانستان ولاحتلال العراق. والغاية من سعيهم هذا هو حصولهم على شرعية الاعتراف الدولي بنظامهم واحترام خيارته، وبالتالي وقف محاولات تغييره، واحترام الدور الإقليمي الإيراني.
الحراك الإقليمي
تشهد المنطقة منذ نهاية أشهر عديدة حراكا إقليميا واسعا، ارتبط بالملفات الإقليمية الساخنة، وتضمن تغيرات في المواقف والمناورات السياسية، انعكس على الوضعين اللبناني والعراقي، وبشكل أساسي على الحلقة الأضعف وهو الوضع اللبناني، الذي شهد توترا كبيرا فيما يتعلق بالمحكمة الدولية. ويبدو أن التوافق الأمريكي ـــ الإيراني، على دعم التجديد لرئاسة نوري المالكي الحكومة العراقية المقبلة، استدعى انضمام القيادة السورية إلى هذا التفاهم؛ كونها وجدت نفسها مضطرة إلى الانضمام إليه، كي لا تخسر مواقع وسبل التأثير، التي تمتلكها من خلال صلاتها وعلاقاتها ببعض المكونات والأطراف السياسية العراقية، وخصوصا مع القائمة العراقية بزعامة علاوي.
وقد دفعتها الحركة الإقليمية المتسارعة في الآونة الأخيرة للتحضير لاحتمالات نتائجها؛ ذلك أن استمرار التوافق الأمريكي ـــ الإيراني في العراق قد يمهد لترتيبات كثيرة في المنطقة، في حال بقاء العنوان الأساسي له هو تسهيل اكتمال الانسحاب الأمريكي من العراق مع مطلع 2012، وفي حال نجاحه قد يطاول الأمر الوضع في لبنان.
وأفضى الحراك الإقليمي إلى مشاورات بين سورية والسعودية، توجتها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى الرياض ولقاؤه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الإثنين الماضي. وكان الوضعان اللبناني والعراقي محورا لقاء الزعيمين. وقبل ذلك جرى تشاور بين السعودية ومصر، وبين سورية وتركيا. واشتمل الحراك على زيارة الأسد لطهران، التي تناولت لبنان والعراق بشكل أساسي، ثم جاءت زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى لبنان، والتي أثارت ردود فعل متباينة، وأرسلت رسائل في اتجاهات متعددة.
ولا شك في أن الأوضاع في الداخل اللبناني، وفي العراق كذلك، تتأثر بشكل كبير بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وعليه فإن الاختلاط في الأوراق الإقليمية يمكن قراءته في ظل التراجع الأمريكي، لكن الطريق أمام الصفقات والمساومات ما زالت شاقة، وتصطدم بالعديد من العوائق، وربما صعود أداور بعض القوى الإقليمية دفع مخيلة المحللين لافتراض عقدها في مسرح الشرق الوسط الشائك.