بين هموم سوق العمل وهمنا في تسويق ما نعمل
كلما تبرز قضايا توظيف أو استيعاب الشباب أو الشابات من خريجي الجامعات، ومدى أهميتهم في الدورة الاقتصادية والتنمية والمستقبل ... إلخ، نجد أننا نتحرك في كل اتجاه, لكن ما النتيجة؟ فجهة هنا تعقد اللجان وتحاول إيجاد مواضيع للنقاش لتصل إلى قرارات يتضح فيما بعد أن أغلبيتها غير قابلة للتطبيق. جهة أخرى تباشر بالمكالمات الهاتفية ويُستغرق في ذلك الوقت الطويل، محاولة من المعنيين إيجاد منطق للتحاور من أجله ويمكن تبادل المخاطبات التي تستغرق بين المكتب والآخر في المنشأة نفسها أسابيع عدة. جهة ثالثة تقلب صفحات الدفاتر القديمة لترى إن كان لها سجل مناسب لطرحه أم لا بد من عمل سجل جديد. أما الجهة المختلفة حقا فهي التي تحاول أن تكون مثالية فتجمع أقطابا من هنا وهناك وتصدر تقريرا ملونا لإنجازات لم يسبق لها مثيل, فيكون مصير ثلثي النسخ مستودع هذه الجهة أو في أيدٍ لم تتكلف حتى بالنظر إليها. تُكَوّن اللجان والفرق ثم نصدر لوائح تنظم كيفية معالجة المواضيع العمالية وعندما نقيس مستوى الإنجاز بأسلوب علمي ممنهج لا نجد أننا حققنا إنجازا يبقى أثره لعقود قادمة. هكذا ندور إلى أن نشعر أنفسنا بأننا قمنا بكل شيء وفي الواقع لم نقم بأهم شيء. أعتقد أن السبب أننا لا نستخدم العلم (الذي يهتم بالحقائق فقط) في حل المشكلات. واقعيا لا ننزل للميدان ولا نتعايش مع نمطية الأحداث ولا نقوم بالتحليل الإحصائي العلمي لكل الأرقام, والبعض لا يريد استيعاب وجود مشكلة أصلا لنخرج بتوصيات وحلول قابلة للتطبيق بآلية محددة وبسيطة لكل مهمة على حدة.
في الدول العربية كافة وبالذات الخليجية ما زال المواطن يبحث عن عمل ويجد نفسه أمام اشتراطات وعوائق تبدو متعمقة الجذر. إن إشارة وزير العمل الأخيرة إلى أن "البطالة السعودية تساوي عشر العمالة الوافدة" في هذا العام المهم 2010، لتحدد بالضبط حجم المشكلة التي تفاقمت لقرابة العقدين من الزمان دون حل. لقد وصل بنا الحال إلى أن حملة البكالوريوس والماجستير في تخصصات الحاسب الآلي والعلوم الطبيعية والتطبيقية يعتذر لهم أو يجبرون على الخروج بعد ممارسة خفض المرتبات، أو التكليف بالعمل لساعات طويلة، أو منع الحمل والولادة (للإناث) وغير ذلك. أما الذين قبلوا بثلاثة آلاف ريال شهريا فقد اتضح لهم أنها لعشرة أشهر فقط. من ناحية أخرى هناك من سُوِّف وأُجل من قبل عديد من الشركات وضاعت الأشهر في البحث عن عمل من دون نتيجة إيجابية. الظروف والممارسات تبدو غريبة وتحكي واقعا يتطلب القيام بعمل حقيقي، لا تسويق ما نقوم به لإقناع المهتمين والمسؤولين بأننا نعمل فقط. إن المستقبل يخبرنا بقدوم عشرات الألوف من المبتعثين المؤهلين على مستوى عال من التخصصية والقدرة المهنية. كما أن قبول مئات الألوف في الجامعات المحلية ـــ ولله الحمد ـــ سيجعلنا أمام تقنين واقع نظام العمل حكوميا وفي القطاع الخاص، أو إغراق أبنائنا في انحراف أخلاقي وضياع شبابي وغياب ذهني, إضافة إلى البَلادة المهنية التي لا تقل أهمية عن سابقاتها، ناهيك عن التفكك الأسري.
أعتقد أن العمل في أيدي الوزارات كلها وليس فقط وزارة العمل, نحن مقدمون على خطة جديدة نتوسم ونأمل تنفيذها بنسبة لا تقل عن 85 ـــ 90 في المائة، وفي طياتها مهام لكل قطاع متمحور حول أبنائنا وبناتنا بناة المستقبل. المطلوب أن يكون هؤلاء غارقين في أداء أعمالهم لا يستطيعون الالتفات لأحد لا أن يتلفتوا بحثا عن عمل فلا ينفذ من الخطة سوى 10 ـــ 15 في المائة فقط! إن من مؤشرات الإنجاز نسب التوظيف في القطاعين, إضافة إلى معدل إنتاجية الأفراد العملية. ثم من ناحية أخرى معدل القيام بالأبحاث التطويرية المعنية بهذا الجانب, خصوصا فيما يتعلق بتطوير مهارات القوى العاملة في القطاعين العام والخاص. أما على صعيد التعليم فلا بد أن يكون خريجو التعليم مؤهلين بمستوى معين في العلوم والرياضيات واللغة واستخدام التقنية حتى يتمكنوا من إقناع أرباب العمل بأهليتهم لهذه الوظيفة أو تلك المهمة. كما أن لديهم الإبداعية الفكرية التي تجعلهم قادرين على التأقلم مع كل جديد في فروع العلم من أجل تطوير أساليب الأداء في أي عمل. إن قياس ذلك التقدم أظهر في تقارير البنك الدولي ومنظمة العمل العربية للأعوام القليلة السابقة أن الوضع يزداد قسوة مع تزايد ضعف المخرجات كمدخلات لسوق العمل وضآلة أو تشتت الجهد المبذول لتعديل الوضع. لقد ظهر جليا على مستوى الدول الخليجية ذات الدخل العالي قياسا بغيرها زيادة الاعتماد على الأيدي العاملة الرخيصة والأجنبية، وعدم الاهتمام بجودة نوعية التعليم والتدريب لتتواكب واحتياج الفرد إلى معلومات ومهارات أكثر ملاءمة للوضع.
نريد أن نسمع ونرى التأثير في المعدل الشهري للتغيير في نظم العمل أو معدلات التوظيف أو تطوير الأبحاث أو القبول في الكليات أو الإنفاق على المشاريع أو إنجازات الأفراد كإعطائهم الثقة بالإشراف أو المشاركة في الإشراف على المشاريع الضخمة أو استشارتهم في كثير من القضايا المحلية الأكثر قربا لها. كما نريد أن نرى وجها جدياً وجديداً للقطاع الخاص الذي تمكن من إيجاد حلول كثيرة في بعض المراحل، ويعول عليه في الخطة القادمة الكشف عن تنمية حقيقية مستدامة .. فهل يمكن ذلك؟ ما زال هناك أمل.