رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الشركات الكبرى والرعي الجائر

الرعي الجائر هو الضغط على المراعي الطبيعية من قطعان الأنعام (كالماشية) التي يربيها الإنسان، ويحدث بتمكين أعداد كبيرة من الحيوانات بالتغذي على بقعة محدودة من المراعي لإنتاج كمية أكبر من اللحوم، ويؤدي الرعي الجائر إلى تدهور التربة الذي قد يرافقه تقليل ثبات التربة وقابليتها للتجريف بفعل عوامل التعرية من الرياح والأمطار، وقد يؤدي إلى تصحر تلك المراعي.
مصطلح الرعي الجائر قفز إلى ذهني عندما فكرت في حال الطبقة المتوسطة في بلادنا، التي بدأت تتآكل بشكل مقلق بسبب رعي الشركات الكبرى بشكل جائر في أموال هذه الطبقة لتحقيق أكبر قدر من الإيرادات والنمو بشكل أدى إلى تدهور هذه الطبقة بفعل ارتفاع أسعار الأساسيات، فضلا عن الكماليات التي باتت في حكم الأساسيات في هذا العصر، وبكل تأكيد إذا استمر الوضع على ما هو عليه دون حماية لهذه الطبقة من طغيان الشركات الكبرى التي باتت تتجاوز الهيئات المنظمة بكل سهولة ولا تجد أي مقاومة اجتماعية لعدم وجود مؤسسات حماية مدنية سوى بعض الجمعيات الشكلية كجمعية حماية المستهلك، فإنه بكل تأكيد ستتحول هذه الطبقة بشكل متسارع نحو الطبقة الفقيرة ليتحول معظم المجتمع من قيمة إلى عالة.
يقول الكاتبان جون سليفان وجورجيا سمبونارس في مقالة لهما: ''إن إدارة الشركات تحتل أكثر فأكثر موضعا مركزيا في استراتيجيات التنمية العالمية؛ فانتشار مبادئ السوق (الحرة) في الاقتصاديات التي كانت مغلقةً قد ولّد جيلا جديدا من أصحاب المشاريع والمستثمرين في جميع أنحاء العالم، وإذا أرادت البلدان استخدام القطاع الخاص بنجاح كمحرك للتنمية الاقتصادية، فإن عليها أن تخلق البيئات التي ترعى قيام شركات أعمال تنافسية مربحة ومدارة بصورة أخلاقية''.
والسؤال المهم من وجهة نظري هو هل الشركات الكبرى التي تولدت ولا زالت تتولد في بلادنا السعودية تدار بصور أخلاقية؟ وهل البيئة التي تعمل بها ترعى قيام شركات أعمال تنافسية مربحة ومدارة بصورة أخلاقية؟ والجواب بكل تأكيد لا وهو جواب يمكن للشركات أن تتأكد منه باستبيانات تنشرها بين الناس لتعرف حقيقة ضعف إن لم يكن انعدام ثقة الناس بها، إضافة إلى ضعف ثقتهم بالهيئات المنظمة التي تقوم على تنظيم السوق المعنية به وتطويره وحماية المتعاملين به، وبالمثال يتضح المقال.
ثقة الناس في السوق المالية في أضعف درجاتها بسبب ضياع حقوق المساهمين وطرح شركات بأسعار مبالغ بها على المواطنين في أوقات تعلم تلك الشركات والهيئة المنظمة أن الاقتصاد يتجه للتدهور، لكن لا مانع فحقوق ملاك الشركات الكبار أولى من حقوق الصغار الذين ضاعت مدخراتهم حتى أصبحوا للطبقة الفقيرة أقرب من الطبقة المتوسطة والأمثلة كثيرة والقصص مؤلمة.
ثقة الناس في قطاع الاتصالات أيضا أضعف ما تكون، خصوصا أن هيئة الاتصالات خرجت أكثر من مرة بقرارات تحمي الشركات العاملة على حساب المستهلك الذي لا يجد من يدافع عنه أمام تدليس تلك الشركات من جهة جودة الخدمات وعروضها التسويقية المتذاكية على المستهلك وأخطائها المتعمدة وغير المتعمدة في الفوترة وتحميل المشتركين خدمات لم يطلبوها، إلى غير ذلك من الأفلام التي يتداولها المستهلكون حتى بات بعضهم مديونا بضعف دخله الشهري ومطلوب منه أن يسدد أو أن يوضع في القائمة السوداء! رغم أن الحق يقول إن من يجب أن يوضع في القائمة السوداء الجهة التي أخطأت وشاع خطأها لدى القاصي قبل الداني، وبالنسبة إلى هيئة الاتصالات فأداؤها مخجل في تحقيق التنافسية العادلة وحماية المستهلكين وهو أمر يصب في خانة ضرر المستهلك بالمحصلة ولا عزاء للمستهلكين.
قطاع الكهرباء الذي تستفرد به شركة واحدة لو حاسبتها الحكومة بسعر الديزل دون دعم لأعلنت خسائر سنوية هي الأخرى تخرج لنا فواتير شهرية لـ 33 يوما وأخرى لـ 37 يوما وكأن أيام الشهر تغيرت والمستهلك لا يعلم كيف تم فوترته حسب نظام الشرائح المعروف، وهيئة الكهرباء والإنتاج المزدوج في سبات عميق.
شركة المياه الوطنية جعلت أحياء كثيرة يتكلف سكانها من 500 إلى 1000 ريال شهريا للحصول على الماء بعد أن قطعت المياه عن أحياء كثيرة لأسباب غير معروفة ليلجأوا لشراء الوايتات، وما على المستهلكين سوى سماع الوعود الجميلة والبراقة من مركز الاتصال الموحد الذي يشير للمستهلكين بمواعيد وصول المياه الوهمي.
رسوم المدارس الخاصة والجامعات الأهلية ازدادت وقت الأزمة المالية وكل سنة تزداد والمستهلكون الذين يريدون لفلذات أكبادهم تعليم جيد يتناسب ومتطلبات العصر وضرورة رفع قدرات أبنائهم التنافسية للحصول على الوظائف التي شحت محليا ودوليا ووزارتا التعليم العالي والتربية ''ما حولك أحد'' مدرسون برواتب متدنية جدا مقابل رسوم دراسية عالية جدا معادلة عجز أولياء الأمور عن فهمها.
الذهاب إلى المستشفيات أو المستوصفات الخاصة مقامرة غير محسوبة العواقب، فالمريض مشروع تجاري يجب حلب آخر ريال في جيبه أو في رصيده، سلسلة غير متناهية من الفحوصات بأسعار لا محدد ولا مرجعية لها يعقبها روشتة أدوية لا داعي لأكثر من نصفها، ووزارة الصحة عاجزة عن حماية المستهلك، والأمثلة تطول وتطول.
ختاما: أود أن أقول إن المستهلك سيتعرض لرعي جائر من الشركات الكبرى ما لم يستكمل متطلبات التحول من الاقتصاد الرعوي، حيث الدولة تقدم الخدمات الأساسية للمواطنين إلى الاقتصاد الرأسمالي، حيث الشركات تقدم الخدمات عوضا عن الدولة، وأهم هذه المتطلبات وجود مؤسسات مجتمع مدني متعددة ومتنوعة تستطيع أن تجمع قوة المجتمع للتصدي لجشع وتعديات الشركات الكبرى التي لن تتوانى عن قتل سوقها بجهلها لتحقيق الأرباح الآنية وإن كانت على حساب قتل الطبقة المتوسطة التي تشكل الشريحة الاستهلاكية العريضة لمنتجاتها وخدماتها، وبكل تأكيد لا تكفي جمعية واحدة مريضة لحماية المستهلك وحماية الأسواق من طغيان الشركات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي