هل آن للغرب أن يراجع مفهوم حريته؟!

يتباهى الغربيون بالديمقراطية والحرية, إذ لا تقابل أحدا منهم في مطار أو جامعة أو في مطعم أو في الشارع, إلا ويحدثك عن الحرية وقيمتها في حياة الأمم والشعوب, ولمست مباهاة الغربيين بالحرية حين كنت طالبا في الولايات المتحدة, حيث كان الزملاء الأمريكان, وكذلك الأساتذة يشيدون بحريتهم, ويضربون الأمثلة من واقعهم, خاصة حين يكون الحديث عن موضوع له علاقة بالسلوك الإنساني, وفي نمو المجتمعات وتطورها ودور الحرية في هذا المجال.
غرس في ذهن الإنسان الغربي من خلال الإعلام ومن خلال ما يسمعه أو يقرأه, أن منطقة الشرق الأوسط تفتقد الحرية, وأن الدولة الوحيدة التي تتمتع بالحرية هي دولة الكيان الصهيوني, وهم محقون في هذه الفكرة إلى حد كبير, خاصة عند ما يتعلق الأمر بحرية الرأي والكلمة من خلال المنابر المتعارف عليها عالميا كالصحافة, والإعلام والمجالس النيابية, إذ يندر وجود المناخ والآليات التي تمكن من إبداء الرأي دون خوف أو وجل من مساءلة أو محاسبة, خاصة عندما يتعلق الأمر بالشأن العام والسياستين الداخلية والخارجية, وذلك في كثير من أنحاء العالم.
من المواقف التي مرت بي بشأن مباهاة الأمريكيين بالحرية ذات مرة عندما كنت في نيويورك في زيارة عابرة, وذلك أثناء فترة حكم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب, حيث جاء يومها إلى نيويورك في شأن انتخابي, وكنت أسكن بالصدفة في فندق يقابل الفندق الذي يسكن فيه الرئيس, وقد قابله سكان نيويورك بالمظاهرات والاحتجاجات على سياساته بشأن برنامج التأمين الصحي والاجتماعي, وأطلق شرارة المظاهرات تلك خبر إصابة أحد لاعبي كرة السلة اللامعين بمرض نقص المناعة الإيدز, وحاصر المتظاهرون الفندق من كل الجهات وضاقت الشوارع بهم, وراقبت المظاهرات من ردهة الفندق مع بعض الساكنين, إذ لم يكن بمقدورنا مغادرة الفندق, وسألني أحد الأمريكان الساكنين في الفندق من أي بلد أنا, فأجبته, ثم أردف سائلا: أتدري لماذا يتظاهر هؤلاء؟ فأجبته بعدم معرفتي بذلك, فأخبرني بأن السبب هو الاحتجاج على سياسة الرئيس التقشفية بشأن الضمان الصحي, وأردف قائلا: هذه الحرية التي نمتلكها وتفتقدها بعض المجتمعات.
الحرية كقيمة اجتماعية لا شك أنها ضرورية وأساسية للإنسان؛ لأنه من دونها لا يستطيع أن يفكر أو يتصرف بالشكل المناسب له كفرد.. كما أن المجتمع الذي يفتقد هذه القيمة يفقد الكثير من حيويته, وتنطفئ شمعة نموه وتطوره, لكن قيمة الحرية ليست فكرة مجردة, بل هي ممارسة وآليات وضوابط توجهها, إذ إنه حتى في المجتمعات المغرقة في الحرية يرون أن حرية الفرد تنتهي بانتهاء حرية الآخرين, لأن ممارسة الحرية قولا أو فعلا وبشكل مفرط ربما تؤذي الآخرين وتفقد الحرية قيمتها ومعناها.
تذكرت هذه المواقف وهذه المعاني بعدما سمعت أن محطة شبكة الأخبار ذات الشهرة الواسعة CNN فصلت أحد مذيعيها من العمل لمجرد أنه قال شيئا فسر بأنه معادٍ للسامية في بلد يعد نفسه قلعة الحرية, وفي وسيلة إعلامية يفترض أن تكون حامية ومدافعة عن الحرية وتمثل رمزا من رموز الحرية يفصل المذيع, وسبق لهذه المحطة فصل مذيع سابق للسبب نفسه. وهذه الأيام وفي قطر أوروبي هو فرنسا تحاكم عضو مجلس الشيوخ الفرنسي حليمة بومدين، لأنها قالت ما يمكن أن يفسر بأنه عداء للسامية وفق العقل الغربي المشبع بالأفكار الصهيونية, والكل يعرف ما حدث لروجيه جارودي من محاكمات نظرا لأنه شكك في عدد القتلى فيما يسمى المحرقة اليهودية, والأمر حدث للمؤرخ البريطاني الذي سجن بحجة معاداته للسامية, وذلك عندما شكك في عدد قتلى المحرقة.
هذه الممارسات المتناقضة في الغرب تتنافى كلية مع مفهوم ومبدأ الحرية الذي يتباهى به الغرب على سائر الشعوب الأخرى.. كما أنها تكشف زيف هذه القيمة في العالم الغربي, العقل السليم لا يقبل أن يبرر الغرب الإساءة للإسلام والمسلمين ورموزهم من خلال الرسومات كما حدث في الدنمارك, أو في كتبهم ومقالاتهم أو برامجهم التلفزيونية أو تصريحات كهنتهم وحاخاماتهم بحجة الحرية, وحرية الرأي والإعلام في حين يحاكم ويسجن ويفصل كل من ينطق ولو بكلمة بسيطة بشأن اليهود, هل الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية معاداة للسامية؟! وهل السامية خاصة باليهود؟ لماذا لا يعاقب رسام الكاريكاتير الدنماركي بحجة معادة السامية، فالعرب والرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ ساميون, لكن يبدو أن استعباد اليهود المجتمعات التي يوجدون فيها أفرغ عقول أصحابها من المنطق السوي الذي يقنع الآخرين بصحة تفاخر الغرب بالحرية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي