لماذا يُضرب المعلم؟
في الوقت الذي يحتفل فيه العالم بيوم المعلم، قام عدد من الطلاب في مجمع تعليمي في مدرسة ثانوية في منطقة الجوف بالاعتداء على أحد المعلمين عند محاولته منعهم تسلق سور المدرسة، فقاموا بالتهجم اللفظي عليه ثم الاعتداء الجسدي بالضرب المبرح، مما تسبب في نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، وعلى إثرها وجه مدير التربية والتعليم للبنين في منطقة الجوف بتطبيق لائحة تقويم السلوك والمواظبة على الطلاب المعتدين، وأصدر أوامره بحرمانهم من مواصلة التعليم. ونريد أن نضع هذه الحادثة تحت المجهر، ونغور في أعماقها، ونقرأ تفاصيلها لنتعرف لماذا يتجرأ أبناؤنا على ارتكاب مثل هذا السلوك المشين؟ الذي يبدو أن هناك قناعة في أذهان الناشئة أن المعلم ـــ أي معلم ـــ يستحق العقاب، فهذه ليست الحادثة الوحيدة، فقد تفشت ظاهرة ضرب المعلمين في السنوات الأخيرة. في رأيي، أن ضرب الطلاب للمعلمين لم يأت من فراغ، وما هو إلا ردة فعل طبيعية لما يُمارس ضدهم من عنف جسدي ونفسي داخل المدرسة، وأرى أن هذا من أهم الأسباب التي تقف وراء هذا السلوك المهين. وهنا لست مدافعا عن سلوكهم ولا مؤيدا لفعلتهم، فأنا أنكرها جملة وتفصيلا، ولكن الأمر يتعدى أن يكون حادثا عرضيا، وأن تكون الكراهية والمواجهة ضد المعلمين قد تكونت في نفوس هؤلاء الصبية بين عشية وضحاها. الرغبة في الانتقام وضرب المعلم بهذه الوحشية وهذا الحقد قد تكونت في أذهان المعتدين منذ أن كانوا صغارا يافعين في المراحل المبكرة من التعليم، وأنا على يقين بأن معلم الجوف قد مارس العنف مع هؤلاء الطلاب أو مع أقرانهم منذ أن كانوا صغارا فادخروها في أذهانهم وعقولهم حتى أصبحوا رجالا قادرين على الثأر وممارسة العنف، وهم بهذا التصرف لا ينتقمون من معلم بعينه بل من شريحة المعلمين، وأرى أن الوضع أقرب ما يكون إلى تصفية حسابات. أصدرت وزارة التربية والتعليم قبل سنوات عدة قرارا بمنع العنف بكل أشكاله ضد الطلاب في جميع مدارس التربية والتعليم، إلا أن المعلمين لا يزالون يمارسونه سرا وعلانية، وهناك من القضايا الموثقة في أقسام التفتيش في إدارات التربية والتعليم ومنها من تخطاها إلى مراكز الشرطة وإمارات المناطق. وهنا تحضرني قضية المعلم الذي تعدى بالضرب المبرح على أحد الأطفال في مدينة خميس مشيط بحجة عدم أدائه واجباته المنزلية، مستخدما في ذلك العصا الغليظة والأسلاك الكهربائية، مما اضطر أمير منطقة عسير إلى التدخل وأصدر أوامره بتغليظ العقوبة على المعلم "مغتال الطفولة" باعتبارها قضية جنائية.
أعود لطلاب منطقة الجوف، وأقول إنني لم أتعجب كثيرا عندما سمعت عن الحادثة لما أرى وأعرفه من السلوكيات غير التربوية التي تصدر من بعض المعلمين في بعض المدارس، فما حدث ردة فعل طبيعية، ويبدو أن المعتدين على المعلم في ثانوية الجوف قد تعرضوا للعنف بوحشية في المراحل المبكرة من التعليم، فقاموا باختزانه في عقولهم، ولم ينسوا إهانات الطفولة وقسوة التربية، وظلوا يحدثون بها أنفسهم حتى كبروا، وقويت شكيمتهم، وصلب عودهم، وعندما أتيحت لهم الفرصة فعلوا فعلتهم كي يستردوا كرامتهم أمام أنفسهم.. وإنني على يقين بأنهم لم يشعروا بالأسف وتأنيب الضمير لما قاموا به بل بالنشوة والبطولة، وينظرون إلى فعلتهم أنها ردا للكرامة وانتقاما للذات، مع العلم بأن إدارة التربية والتعليم في الجوف لم تكلف نفسها سبر الحقيقية بطريقة تربوية، بل تعاملت مع القضية كما تتعامل مراكز الشرطة. وأرى أن قرار حرمانهم من التعليم قرارا مرتجلا، لأنه سيسلم هؤلاء الفتية إلى خفافيش الظلام وعصابات المخدرات، فتغرس في عقولهم كراهية المجتمع بكل مؤسساته، وتقنعهم بأن هذا المجتمع الذي رفضهم لا يستحق الاحترام والتقدير، بل الخراب والتدمير. وأريد أن أقف قليلا عند هذه النقطة وأقول إنه يجب الفصل بين حالة الاعتداء على المعلم وأحقية الطالب في التعليم، فالعقاب يجب أن يكون مقتصرا على فعلتهم ولا يتعداه إلى سلب حقهم في التعليم، فيمكن ردعهم والقصاص منهم وتأديبهم بطرق عدة، وإعادة اعتبار المعلم دون التهور بحرمانهم من التعليم. عندما يتجاوز الفرد شرائع المجتمع ويرتكب جريمة كالسرقة مثلا فهل يُحرم من الطعام والشراب؟ لا أظن نظاما أو عرفا يحرم الإنسان من أساسيات الحياة إذا ارتكب جنحة أو جريمة، بل يستمتع بكل ذلك ويقتص منه فيما ارتكب من جرم، ويعود يمارس حياته الطبيعية، والتعليم ضرورة كالأكل والشرب، وطلاب الجوف يمكن أن يُقْتَصَّ منهم فيما ارتكبوه من تعدٍ على المعلم دون أن يُحرموا من التعليم.
كما أن مسؤولينا لا يتحركون إلا متأخرين، فها هو مدير إدارة التربية والتعليم في الجوف قد استيقظ أخيرا والتقى طلاب المدرسة وذكرهم بأهمية احترام المعلم وتقديره وكأنهم من السذاجة، حيث لا يدركون من هو المعلم وما هو دوره فأظنهم من الفطنة والألمعية ما يعرفون أضعاف ما يعرف، وليسوا في حاجة إلى مثل هذه المحاضرات الخاوية، ولكنهم لم يجدوا أمامهم معلمين أصحاب رسالة بل جلادون وموظفون.
وأخيرا، أرى أن نظامنا التعليمي والتربوي قد أسهم كثيرا في هذا التدهور السلوكي للطلاب نتيجة الإهمال في اختيار وتدريب المعلمين حتى أصبحت وظيفة المعلم من أوهن المهن، فالوزارة لم تبذل المجهود الكافي في اختيار المعلم، ولم تقدم له ما يعينه وينمي قدراته ويصقل مهارته، فهي لاهية بالشكليات والمناهج المترجمة والتجارب غير الموفقة، وآخرها "التقويم المستمر" الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد اعترفت الوزارة مطلع هذا الأسبوع عن الفشل الذريع الذي أحدثه "التقويم المستمر"، وهي عاكفة على إيجاد البديل خلال أيام فاللهم سَلم.