هيمنة سياسية واقتصادية عالمية موجهة وبأدوات جديدة

يبدو أن العالم في الألفية الثالثة سيشهد حروباً اقتصادية، وسياسية كذلك، من نوع خاص، ولعل أولها باتت يُعرف باسم ''حرب العملات''، لذلك راح بعض الكتاب والمحللين السياسيين والاقتصاديين يفتشون في الأحداث التاريخية الماضية، كي يجدوا ما يشبهها، ويبرروا وجود مثل هذه الحرب الجديدة، وذلك في سياق محاولاتهم إثبات أن الحرب ليست حالة استثنائية، بل حالة طبيعية، لازمت الإنسان منذ نشأته. لكن الخطير في الأمر، هو أن مفردة ''الحرب'' صارت تتردد على كل الألسن، وترد في صيغ متعددة، ضمن ما يمكن تسميته تسويق الحرب وتصريفها، بما يعني اشتقاق الحروب من بعضها بعضا، ثم محاولة توجيهها بما يتناسب مع المصالح الاقتصادية والنزعات الأيديولوجية للقوى المهيمنة على العالم اقتصادياً وسياسياً. ومن ذلك التناسل المريب لمفردة الحرب يسدل الستار عن المشكلات الحقيقية التي تواجهنا في عالم اليوم، أمماً وشعوباً، وجماعات وأفرادا.

حرب العملات
ينهض مفهوم حرب العملات على استخدام العملة كسلاح سياسي، ويتجسد من خلال لجوء حكومات الدول القوية والصاعدة اقتصادياً، إلى تخفيض أسعار صرف عملاتها المحلية، من أجل حلّ مشكلاتها وأزماتها الداخلية، حيث تلجأ حكومات تلك الدول إلى إضعاف أسعار صرف عملاتها الوطنية بوسائل مختلفة، والغاية منه هي رفع القدرة التنافسية لاقتصادها، بشكل يزيد من قدرة سلعها المصدرة إلى الأسواق الدولية على المنافسة، وهو أمر بات يهدد التجارة العالمية، والتعاونَ الدولي بخصوص مواجهة آثار الأزمة الاقتصادية العالمية.
ولا شك في أن فكرة استخدام العملات كسلاح سياسي ليست جديدة، لكنها تحظى بترويج كبير في أيامنا هذه، وقد طُبقت من طرف عديد من الحكومات، حيث اتخذ أخيرا البنك المركزي الياباني حزمة إجراءات جديدة لتحفيز الاقتصاد الياباني والحدّ من ارتفاع قيمة الين الياباني. كما قامت دول عديدة، مثل البرازيل وسويسرا وكوريا الجنوبية، باتخاذ إجراءات مشابهة، تهدف إلى تخفيض سعر عملتها، وتعزيز مواقع سلعها وبضائعها المصدرة إلى الأسواق العالمية. وعليه، يخشى خبراء الاقتصاد أن يؤدي استمرار تلك السياسات إلى اتخاذ الدول إجراءات حماية جمركية، تضر بالتجارة الدولية التي يعول عليها كأحد أبواب الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية. واللافت هو أن وزير المال البرازيلي ''غويدو مانتيجا'' أطلق، في 27 أيلول (سبتمبر) من هذا العام، تحذيراً من حرب عملات تشنها الدول الكبرى لإضعاف عملات بعضها بعضا. وترك تحذيره صدى واسعاً، كونه ذكّر بأزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الـ 20 المنصرم، حين انهار الاقتصاد العالمي على وقع تخفيضات متهورة في أسعار عملات الدول القوية في ذلك الوقت.
غير أن الواقع يكشف أن عديدا من الاقتصادات الكبيرة تتدخل في مسألة تسعير العملات، فقد بدأت الحكومة السويسرية بتدخل أحادي الجانب ضد ارتفاع الفرنك السويسري في العام الماضي، لأول مرة منذ 2002, ولم تعد تقييمه عن طريق إعادة الشراء في أسواق المال المحلية بالأموال التي حصلت عليها عن طريق التبادلات الخارجية. وكذلك، تدخلت حكومات عديد من دول شرق آسيا على غرار كوريا الجنوبية في عدة مناسبات، من أجل إبقاء سعر صرف عملتها منخفضا خلال هذا العام، وخوّلت البرازيل صندوق ثروتها السيادي لبيع العقارات نيابة عنها، مع أنها كانت تعبر عن القلق من تدفق الأموال، بشكل زاد من سعر العقارات وتسببت في عدم توازن واستقرار الاقتصاد.
وترفض الصين جميع الدعوات لرفع سعر عملتها اليوان، بالرغم من تكثيف المسؤولين الأمريكيون والأوروبيون ضغوطهم عليها، من أجل السماح لعملتها بالارتفاع. بالمقابل، تتهم الصين الولايات المتحدة بالسماح بتراجع سعر صرف الدولار في الفترة الأخيرة، كما يتهم المسؤولون السياسيون الصينيون الرئيس الأمريكي أوباما باختلاق أزمة مع الصين حول أسعار عملتها، معتبرين أنها محاولة من طرفه لكسب تعاطف الناخبين الأمريكيين في انتخابات الكونجرس النصفية التي ستجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010.
وفي معرض الرد على الحملة الأمريكية، خاطب رئيس الوزراء الصيني وين جياباو رجال الأعمال الأمريكيين في نيويورك، خلال وجوده فيها لحضور اجتماعات الدورة الخامسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بالقول ''إن سعر صرف اليوان ليس مسؤولاً عن خلل الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة. وأن زيادة سعر العملة الصينية بنسبة 20 في المائة، لن يؤدي إلى خلق وظائف جديدة في أمريكا، لكنه سيؤدي إلى إفلاسات هائلة في الصين''. وأرجع الخلل في الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة، بشكل رئيس، إلى هيكل التجارة والاستثمار بين البلدين.
وحسب أرقام التقرير الذي نشره مركز البحوث الاقتصادية ''آي إتش إس جلوبال إنسايت'' في حزيران (يونيو) 2010، فقد بات القطاع الصناعي الصيني على وشك أن يتجاوز نظيره الأمريكي، حيث أشار التقرير إلى أن قيمة البضائع التي تنتجها المصانع الصينية وصلت عام 2009 إلى 1600 مليار دولار، مقارنة بنحو 1700 مليار دولار أنتجتها المصانع الأمريكية. وقد جعلت هذه الأرقام أصوات المسؤولين الأمريكيين ترتفع للمطالبة بضرورة تطوير وتحديث القاعدة الصناعية في الولايات المتحدة من أجل تطوير اقتصاد البلاد، وتوفير فرص عمل أفضل وتعزيز الأمن القومي، كونها تشكل بالنسبة إليهم تحدياً استراتيجياً.
وهناك تحذيرات عديدة من تزايد احتمالات نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين، على خلفية المقولة التي تفيد بأن السياسة، بدلاً من الاقتصاد، ستعيد رسم مستقبل القارة الآسيوية، كما جرى للقارة الأوروبية في القرن الماضي. لذلك ترتفع الأصوات من احتمال أن يشعل صعود الصين منافسة كبيرة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي ينسج احتمالات قوية لنشوب حرب بين أكبر اقتصادين في العالم.
وتحاول الصين استعادة نفوذها في بحر الصين الجنوبي، بوصفه جزءاً من مداها الحيوي، وتخشى في المقابل من توسع التدخل الأمريكي في هذا المجال الجغرافي، كونها تريد العودة إلى قلب النظام الدولي، بعد عقود من العزلة، وبما يحقق مصالحها الأساسية، وتحولها إلى قوة دولية. لكن بصرف النظر عن التنافس الاقتصادي الأمريكي ـــ الصيني، فإن من المرجح ألا تبقى الولايات المتحدة المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي.

تقويض المعجزة الصينية
‬أشعل كتاب ''حروب العملات'' ‬The currency wars، ‬الذي‮ ألفه الباحث الأمريكي‮ ‬من أصل صيني‮ ‬سنوج‮ ‬هونجبينج‮،‮ نقاشاً واسعاً، ما زال يتردد صداه حتى في أيامنا هذه، بالرغم من أنه نشر منذ أكثر من ثلاثة أعوام. وأثار حفيظة منظمات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، التي اتهمه بالتهمة الجاهزة لديها وهي معاداة السامية، نظراً لكونه يناقش مؤامرة‮ ‬تدبرها البنوك الكبرى المملوكة من طرف عائلات يهودية منذ القرن الـ 19، تهدف إلى تقويض‮ ''‬المعجزة الصينية‮'' ‬الاقتصادية،‮ حيث يرى أن تَراجع سعر الدولار وارتفاع أسعار النفط والذهب هي من العوامل التي ستستخدمها عائلة ''روتشيلد'' اليهودية لتوجيه الضربة المنتظرة للاقتصاد الصيني، واتهم هذه العائلة، وحلفاءها من العائلات اليهودية الكبرى في الولايات المتحدة، بأنها تتحين الفرصة للنزول بسعر الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوى له، كي تخسر الصين في فترة وجيزة، ربما في ثوان قليلة، ما تملكه من احتياطيات من الدولار، التي تصل إلى ألف مليار دولار.
ويعزز هذا التصور ما يحدث في أيامنا هذه من ارتفاع أسعار النفط والذهب في الوقت الذي تنخفض فيه قيمة الدولار الأمريكي مقارنة بالعملات الرئيسة الأخرى، لذلك يحذر هونجبينج من أن جميع الظروف باتت مهيأة، لتنفيذ المؤامرة ضد الاقتصاد الصيني، خصوصاً بعد أن ارتفعت أسعار الأسهم والبورصة، وارتفعت كذلك أسعار العقارات في الصين إلى مستويات غير مسبوقة، ولم يتبق حسب اعتقاده سوى اختيار الوقت المناسب لتنفيذ الضربة. ويوضح قصده بالظروف المهيأة بوصول الاحتياطي الصيني من العملات الأجنبية إلى أرقام قياسية، تزيد على ألف مليار دولار، بينما تستمر الاستثمارات والأموال السائلة تدفقها من جميع أنحاء العالم على الأسواق الصينية، وتشهد التعاملات في البورصة الصينية قفزات كبيرة، فيما تسجل أسعار العقارات ارتفاعات قياسية. وحين تصل أسعار الأسهم والعقارات إلى ارتفاعات مفرطة، بمعدلات تتجاوز السقف المعقول، بسبب توافر السيولة المالية بكميات هائلة، فإنه يكفي للمتآمرين ليلة واحدة فقط لتدمير اقتصاد الصين، بواسطة سحب استثماراتهم من البورصة ومن سوق العقارات.
وبحسب تصور هونجبينج، فإن وضع الصين الاقتصادي يقترب إلى درجة كبيرة من الوضع الاقتصادي لدول جنوب شرق آسيا، وخصوصاً هونج كونج، عشية حدوث الأزمة الاقتصادية الكبرى في عام 1997، حيث إن هناك بوادر وإشارات تلوح في الأفق، تشي بأن الصين بدأت تتعرض بالفعل لبشائر ضربة مدمرة لاقتصادها الصاعد، أهمها التراجع المتواصل لسعر الدولار والارتفاع الجنوني لأسعار النفط الذي تتزايد حاجة الصين إليه. ويربط ''ونجبينج'' ما بين المؤامرة التي أفضت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وبين ما تعرضت له دول جنوب شرق آسيا، معتبراً أن كل ما حصل لم يكن على الإطلاق وليد الصدفة، بل هو نتيجة انهيارات، جرى لها التخطيط بعناية من قبل عائلة روتشيلد والمتحالفين معها.
ويعتبر هونجبينج انسحاب عائلة روتشيلد في عام 2004، من نظام تثبيت سعر الذهب الذي يتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقراً له، مؤشراً خطيراً، يدل على قرب تنفيذ عملية، تستهدف توجيه ضربة قوية للاقتصاد الصيني، ونصح الحكومة الصينية باتخاذ إجراءات وقائية، مثل شراء الذهب بكميات كبيرة من احتياطيها من الدولار، معتقداً أن الذهب هو العامل الوحيد القادر على مواجهة أي انهيار في أسعار العملات.

التأثيرات عربياً
بصرف النظر عن المعطيات الاقتصادية العديدة التي تشير إلى مفاعيل حرب العملات، فإن من المهم معرفة أن جميع البلدان، ذات الاقتصادات القوية والصاعدة، كالولايات المتحدة والصين واليابان والبرازيل وفرنسا وسواها، متوجسة من تأثيرات ومفاعيل هذه الحرب، وتحسب حساباتها العديدة، على مستوى الداخل والخارج، بغية مواجهتها، والعمل على تخفيف تداعياتها.
أما على المستوى العربي، فإن من الضرورة بمكان معرفة تأثيرات حرب العملات على اقتصادات الدول العربية، خصوصاً أنها تتأثر بما يصيب الاقتصاد العالمي بشكل كبير، كونها تربط عملاتها بالدولار أو باليورو. ويعتمد اقتصاد كل دولة عربية بشكل كبير على عمليات الاستيراد والتصدير مع الدول القوية اقتصادياً، لذلك، فإن أي اضطراب في سوق العملات العالمية ستكون له تداعيات القوية على الأسواق العربية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الهزات التي تصيب الدولار، سيكون لها تأثير كبير في الدول العربية، التي يربط معظمها عملاتها المحلية بالعملة الأمريكية، وتعتمده عملة لصادراتها. كما أن البلدان العربية التي تستخدم اليورو في وارداتها من الدول الأوروبية، ستتأثر قدرتها الشرائية بأي ارتفاع يطرأ على العملة الأوروبية الموحدة.
ويشكل تراجع سعر الدولار أمام العملات الدولية، وخصوصاً أمام الين واليورو واليوان الصيني، عاملاً في زيادة التضخم، لذلك يتوقع الاقتصاديون أن دول الخليج العربي ستعاني من ارتفاع جديد في نسب التضخم، كونها ما زالت تربط عملاتها الوطنية بالدولار، وسترفع حرب العملات من نسبه بشكل كبير. إلى جانب انخفاض أسعار صرف عملاتها، وارتفاع فاتورة مستورداتها من الخارج، وبالأخص من الأسواق الأوروبية، واليابانية، والصينية، حيث تشكل نسبة مستوردات دول الخليج من هذه الأسواق الجزء الأكبر من إجمالي مستورداتها، الأمر الذي ينعكس على ارتفاع أسعار السلع في الأسواق المحلية وارتفاع معدل التضخم، وزيادة الأعباء على المواطنين واقتصادات دول الخليج. والأمر نفسه ينسحب على باقي البلدان العربية، وبدرجات متفاوتة.
ووسط الأصوات التي تتحدث عن حرب العملات، فإن المطالبات بضرورة قيام الدول العربية بفك ارتباط الدرهم والعملات الخليجية بالدولار، وربطها بسلة عملات دولية، تمتلك وجاهة في أيامنا هذه، نظراً لأن ربطها بسلة عملات دولية يعود بالفائدة على اقتصاداتها، ويحميها من الاضطرابات في سوق صرف العملات الدولية، وهبوط الدولار أمام العملات الدولية.
ويرى معظم الخبراء الاقتصاديين أن فك ارتباط العملات العربية بالدولار يساعد القائمين على إدارة السياسة النقدية على إدارتها بشكل أفضل، ويمنحهم القوة في استخدام أدوات نقدية، مثل الفائدة، وفقاً للمصالح الاقتصادية الوطنية للدول العربية، خصوصاً أن الإدارات غير قادرة، في الوقت الحالي، على استخدام الفائدة، بشكل قوي، ووفق مصالح الاقتصادات الوطنية، في ظل ارتباط جميع العملات العربية بالدولار وحده أو باليورو، وبالتالي تتعقد مهمة القائمين على إدارة السياسات النقدية، كونها غير قادرة على التحكم في التضخم المرشح للارتفاع في المرحلة الراهنة.
والأمر متروك لأصحاب القرار كي يمعنوا النظر في الآثار والتداعيات التي ستعصف بالاقتصادات العربية في حال نشوب حرب عملات وما ينتج عنها من أزمات وكوارث، والاحتياطات والوقاية في هذا المجال مطلوبة وملحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي