ماذا يريد المواطن في الدول النامية من المسؤول؟
من أبرز هذه السلوكيات الدخيلة أن المسؤول يعلن للناس أنه لن يتكلم إلا بعد ثلاثة أشهر. والمواطن يتساءل: لماذا ثلاثة أشهر؟ وليست ستة أشهر؟ أو خمسة أسابيع؟ أو أقل؟ أو أكثر؟ ورغم أن هذا التقليد شائع في بعض الدول المتقدمة فالمسؤول في تلك الدول قد يعلن بالفعل أنه لن يتكلم إلا بعد حين من الوقت، إلا أنه يظل معتكفا على العمل ليلا ونهارا فيقوم بمسح شامل على الاستراتيجيات والخطط المعدة والأهداف المنجزة وغير المنجزة، كما يتعرف على آليات العمل وطريقة عمل اللجان وإذا وجد أن المهمة لا تتفق وقدراته أو غير راض عما توصل إليه سلفه فإنه لا يتردد أبدا في أن يقدم استقالته ويقترح شخصا آخر يناسب هذه الوظيفة، فهل يجرؤ أحد من هؤلاء الذين يرفضون الكلام في الدول النامية أن يعلن للناس أنه غير قادر على المضي قدما في أعماله الوظيفية إذا ثبت له أن العمل أكبر من حجمه؟
إن ما يحدث في الدول النامية يختلف كثيرا فقد يتجرأ المسؤول ويعلن للملأ أنه لن يتكلم لمدة ثلاثة أشهر مثلا، ورغم صومه عن الكلام المباح إلا أنه أيضا لا يعمل، فجلّ وقته في استقبال المهنئين وحفلات الغذاء والعشاء والتصوير والمراسيم الأخرى. أرى أن رفض الكلام أو تأجيله تشبها ببعض المسؤولين في الدول المتقدمة لا يناسب البتة منظمات الدول النامية لأن الدول المتقدمة لديها استراتيجيات تسير عليها وإجراءات عمل مخطط لها سلفا يستطيع المسؤول أن يحدد بالضبط أين وصل سلفه وحجم العمل الذي ينتظره، وهذه الإمكانات غير متوافرة في أغلبية الدول النامية، فالمسؤول الخلف قد ينسف ما قام به سلفه ويغير وجهة العمل بأكمله وقد يعيده إلى نقطة الصفر، لأن مهمة المنظمة قائمة على فرد إن ذهب ذهب معه كل شيء.
المثال الثاني الذي يظهر لنا في تعامل كبار المسؤولين في الدول النامية أن بعضهم يصرح لوسائل الإعلام عن آليته في مراقبة المشاريع فيعلن على سبيل المثال أنه قد يستخدم الطائرة العمودية عند رقابة الأعمال الميدانية. وهنا يتبادر إلى ذهن المواطن سؤال آخر: ما أهميته ذلك بالنسبة لي؟ فالمواطن لا يهمه طريقة المسؤول في الرقابة الذي ينشده نتائج الأعمال والقدرة على التنفيذ سواء أكان راجلا أو راكبا طائرة عمودية أو دراجة نارية.
المثال الأخير الذي أود طرحه كي أبين وجه نظري أن بعض المسؤولين في الدول النامية يجند الصحافة لخدمة ذاته فيتحف الجمهور كل صباح بصورة له عن يمينه ومرة عن يساره وأخرى من فوقه وتارة وهو يتحدث بالجوال ورابعة وهو مستلق على أريكته والخامسة وهو بصحبة شخصية نافذة. كل هذه الآليات والتصريحات والاحتفالات والزخم الإعلامي لا تهم المواطن في الدول النامية فلا يهمه تكلم المسؤول أم لم يتكلم! راقب بالطائرة العمودية أو بالأقمار الصناعية! لبس بشتاً أو بدلةً رياضية! كل هذا ينظر إليه على أنه ترف واستعرض وظيفي. المواطن في مثل هذه الدول يريد من المسؤولين الإنتاجية التي تنعكس على واقعه يريد أن يرى نتائج الأعمال تنعكس مباشرة على حياته وتحل مشكلاته. فعلى سبيل المثال يتوقع المواطن من المسؤولين في وزارة العمل القضاء على المعضلة الكبرى والداهية العظمى السبب الرئيس لتفشى الجريمة ألا وهي "البطالة"، ويريد من وزير الصحة محاربة الأخطاء الطبية وزيادة عدد الأسرة وإيقاف نهم القطاع الخاص، ويريد من وزارة التربية والتعليم زيادة عدد المدارس وتدريب المعلمين والقضاء على العنف ضد الأطفال في المدارس وإيقاف التجارب التربوية الفاشلة على الأبناء والبنات، ويريد من أمناء البلديات تخطيط العشوائيات وإزالة المخلفات وتصريف مياه الصرف الصحي وليستخدم في ذلك ما يحلو له طائرة عمودية أو سفينة فضائية.
يريد المواطن في الدول النامية من المسؤولين تحسس حاجات الناس وأن يرونه من أنفسهم خيرا، فأوقات الدوام الرسمي ملك للمواطن فيجب ألا يهدر في الاحتفالات والمبالغة في الشكليات على حساب الوظائف الأساسية.
كما أرى أن الإعلام بكل وسائلة أسهم من حيث يدري ولا يدري في ظهور مثل هذه السلوكيات، فنراه يركز على إنجازات المسؤول الشخصية ويغفل إنجازات المنظمة ويتحفنا كل صباح بتصريح لمسؤول يخبرنا فيه أنه يفضل شرب الشاي الأخضر قبيل المغرب وأنه كان موظفا في الأرشيف وبقدرة قادر أصبح في قمة الهرم، وترينا صورته قائما أو قاعدا أو على جنب، حتى أصبحت تلك التصريحات والصور مقززة وتثير الاشمئزاز وتجعل المواطن يعتقد أن مهمة المسؤول في الدول النامية تراوح بين التصريح والتصوير.