أمريكا .. الحكومة الخفية ودولة الاقتصاد غير الشرعي

تساؤلات ومعطيات
> قدمت الأزمة المالية، التي انفجرت في الأسواق المالية في الولايات المتحدة في الربع الأخير من عام 2008، وتحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية، معطى جديداً للتساؤل حول الديمقراطية الأمريكية، وذلك بعد أن سارعت الإدارة الأمريكية الجديدة ورئيسها الجديد باراك أوباما إلى "إنقاذ" و"مساعدة" القطاع المالي بتقديم 700 مليار دولار، واعتبر هذا المبلغ الهائل مكافأة للمضاربين ولصوص البورصات، وكانت الحجة هي إنقاذ مؤسسات المجتمع الديمقراطي الأمريكي، التي تنهض على مبادئ وقيم "الليبرالية" و"اقتصاد السوق" و"المبادرة الفردية"، المجسدة لجوهر الديمقراطية الأمريكية.
وتستند التساؤلات حول الوجه الآخر للديمقراطية الأمريكية، وحول طبيعتها وأقلماتها في الولايات المتحدة إلى معطيات واعتبارات عديدة، إذ اعتبرت النخبة السياسية الحاكمة في النظام السياسي الأمريكي قرار شن الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 قراراً مصيرياً يعبر عن المصلحة القومية الأمريكية حقاً، فيما اعتبره بعض المحللين قراراً يخدم المصالح السياسية والطبقية لما يمكن تسميته "الحكومة الخفية"، ومصالح الفئة الضيقة التي تمثلها وتخدمها، حيث غابت الشفافية في مجال المعلومات المتعلقة بعملية صنع القرار، بوصفها سمة أساسية من سمات أي نظام ديمقراطي، الأمر الذي عنى غياب حق الشعب الأمريكي في معرفة الحقائق التي تبيّن وجاهة عملية صنع القرار، وأنه يخدم المصلحة القومية فعلاً.
وفي عام 2007 نشر آل غور نائب الرئيس الأمريكي الأسبق كتاباً، حمل عنوان "هجوم على العقل"، واعتبره بعض المحللين السياسيين أهم كتاب سياسي في ذلك العام في الولايات المتحدة، حذّر فيه آل غور من أن الديمقراطية الأمريكية تواجه خطراً حقيقياً، ليس فقط بسبب سياسات إدارة جورج دبليو بوش، ولكن لأن المجتمع الأمريكي بأكمله بدأ يتنازل عن قيم كثيرة، وبسبب تغييرات غير مسبوقة في بيئة الأفكار، إضافة إلى الاعتماد على الكذب كأساس للسياسة الأمريكية بشكل غير مسبوق.
وبعد الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، تكشّف للعالم مدى الخداع والكذب اللذين مارستهما إدارة الرئيس بوش الابن في حربها على العراق. وقد كتب بول كروغمان في منتصف 2004 مقالاً، نشره في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "ديكتاتورية أمريكية منتخبة"، وتحدث فيه عن ممارسات الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني وباقي أركان الإدارة الأمريكية، حيث أشار إلى أن بوش وتشيني يصدران في الواقع عن موقف مبدئي، ينهض على إخفاء الحقائق عن المواطنين الأمريكيين، كي لا يعرفوا أسرار تورط رجال السياسة مع رجال الصناعة ومديري الشركات الكبرى في علاقات، يجري خلالها إثراء رجال السياسة بشكل غير مشروع. واعتبر كروغمان أن تشيني يدافع عن مذهب يجعل من الولايات المتحدة نمطاً من ديكتاتورية منتخبة، من خلال نظام يمكن فيه للرئيس أن يفعل ما يحلو له، لأنه غير ملزم بالتشاور مع أعضاء الكونجرس أو مع الشعب.

جرائم ومشهديات
من المعروف أن الديمقراطية هي آلية للحكم، تهدف إلى حماية الفرد والمواطن ضد قابلية السلطة لأن تكون استبدادية أو شمولية، أي مثلما هي مجسدة في أغلب النظم السياسية العربية الحالية. وهي ليست أكثر من أداة لتحقيق هدف سياسي وإنساني يخص الشعب، وبالتالي لا يمكن اعتبار الديمقراطية هي الهدف الوحيد، أو نهاية المطاف.
ومع تكشّف جرائم التعذيب والسجون السرية والمتنقلة، فإن المسؤولية عن هذه الجرائم المنظمة والممتدة زمنياً تطاول رموزاً كبيرة في الإدارة الأمريكية، إذ لا يمكن للجنود الأمريكيين، ولا رجال الاستخبارات الأمريكية أن يتصرفوا في أبو غريب، أو في جوانتانامو، من دون تعليمات وأوامر عليا من وزارة الدفاع، ومن وزارة العدل؟ خصوصاً في ضوء معطيات كانت تشير إلى قوائم تحتوي على أساليب لتعذيب السجناء في جوانتانامو، وأفغانستان، والعراق، بهدف انتزاع معلومات منهم، وتمّت إجازتها من طرف قيادات عليا في وزارة الدفاع، وفي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
وهناك من حاول التخفيف من هول جرائم التعذيب، بذريعة غياب الاحتجاج في التجاوزات والانتهاكات في السجون العربية، معتبراً أن الديمقراطية الأمريكية عامل يخفف من بشاعة الجريمة بينما تكمن حقيقة الأمر في عكس ذلك، إذ إن حدوث مثل هذه الجرائم يعني فشل النظام الديمقراطي في تحقيق هدفه الرئيس. وبالتالي فإن الادعاء أن أمريكا بلد ديمقراطي، والكلمة الفاصلة فيها في النهاية هي حكم القانون هو ادعاء عقيم، ويشبه كثيراً عقم أحكام الديمقراطية في إسرائيل، خصوصاً وأن كلتا الدولتين تمارس احتلالاً، ولا تقبلان سريان مفعول معاهدة جنيف على الأراضي التي تحتلها. وقد كشفت مشهديات الديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل عن تمثيلات عديدة، إذ كل سلوك بربري، أو فعل يصل إلى جريمة حرب، ما يلبث أن ينتهي "قانونيا" كتفوق أخلاقي، ويتم تبريره بالمعاناة النفسية أو بالألم الثقافي أو بغيره من الحجج والذرائع عند القائمين على ممارسات قوى الاحتلال.
إن خطورة ما حدث من جرائم التعذيب والسجون السرية تطرح أسئلة أكثر خطورة، فهل المنطلقات الإنسانية للديمقراطية الأمريكية، وما تفرضه من التزامات قانونية وأخلاقية مقصورة على الشعب الأمريكي دون سواه، أم أن الأمر يتعلق بالنظرة العنصرية التي أسست لها الصور النمطية للآخر، وخصوصاً للإنسان العربي، ومحورتها حول صورة الإرهابي الذي أسهمت في تعميمها الإدارات الأمريكية ومختلف وسائل الإعلام الأمريكي؟
ويبدو أن الديمقراطيات الليبرالية تعيد أقلماتها، في أيامنا هذه، بما يتطابق مع الحدّ من الشفافية التي تميزها عن غيرها، وبما لا يفضي إلى المساءلة والمحاسبة المطلوبتين. بذلك يغيب حق المواطنين في معرفة الحقيقة، وفي مراقبة أفعال السلطة ومحاسبتها. والخوف، بل والمحزن أن تطبق فعالية المساءلة والمحاسبة بعد فوات الأوان, أي بعد أن يطول الكذب والتزوير كل ممارسات الواقعية السياسية، من أجل تحقيق "إجماع" عام حول ما يريده النخبة المتنفذة في السلطة.
وقد قدمت الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين، مشهديات إعلامية متنوعة، عملت على تشجيع الكذب والتزييف، وتسترت على جرائم عديدة، وغيرّت/ وغيّبت الحقيقة عن جمهور واسع قصد التبرير لشن الحرب ضد العراق. وتكاد مشهديات التحضير للحرب، ومشهديات الاحتلال أن تتحول إلى بذاءات، تطول بنية السياسة ذاتها، وتجعل منها لعبة أكثر قذارة، تلوث كل من يقترب منها، الأمر الذي يذكرنا بممارسات الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، ويحيل إلى الاستنتاج بأن التخليق السياسي في ظل الليبرالية الجديدة يستحيل إلى تخليق للدولة يتأرضن في صور شتى، تقترب من كليانية شمولية أو فاشية، ولا يغيب عن هذه الحركية ارتباط عدد من الدول الديمقراطية بديكتاتوريات عديدة.

عسكرة وخصخصة
أقامت الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة حلفاً خطيراً بين المؤسسة العسكرية الأمريكية وشركات الأسلحة والتصنيع الحربي، وشركات الأمن الخاصة أو المرتزقة، وذلك في سياق خصخصة الحروب. وأخطر ما في الأمر هو أن شركات المرتزقة لا تخضع إطلاقاً لأي قانون حساب أو مساءلة، حتى لو ارتكبت جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. يكفي أن نشير هنا إلى أن شركة داين كورب التي قامت بتدريب قوات الشرطة العراقية، هي الشركة التي قامت بتدريب الشرطة البوسنية نفسها. وتورطت هذه الشركة في أعمال منافية للأخلاق خلال فترة تدريبها للشرطة البوسنية، إذ اتهم موظفوها بالقيام بعمليات اغتصاب ومتاجرة بالفتيات القاصرات، ولم يخضع أي من موظفيها للعقاب أو المساءلة، وعليه، اخترقت شركات المرتزقة صناعة الحروب في الولايات المتحدة لدرجة بات معها من الصعب على الجيش الأمريكي أن يشن حرباً من غير الاستعانة بخدمات وجهود المرتزقة.
ولم يتوان المرتزقة عن ارتكاب أبشع الانتهاكات اللاإنسانية بحق المدنيين العزل، وبحق المعتقلين العراقيين في سجون الاحتلال، بعد أن بات العراق المحتل مجالاً خصباً لعبث شركاتهم، التي لا تخضع إلى أي قانون غير قانون كسب المال، ولا تعترف بكل الأعراف والمواثيق الدولية التي تنص على حماية سكان البلد المحتل.
غير أن ممارسات قوات الاحتلال، في العراق وفلسطين وسواهما، ومعاييرها الخاصة أفقدت إمكانية التمييز الواضحة ما بين المرتزقة والجنود. ومردّ ذلك يعود إلى تعميم ثقافة الارتزاق التي نشرتها قوى الليبرالية الجديدة أو "المتوحشة" في الولايات المتحدة، حتى ضاق الفارق والاختلاف ما بين المرتزق والجندي، وبات عديد من الجنود الأمريكيين ينظرون إلى مهمتهم في العراق على أنها علامة جيدة ستضاف فيما بعد إلى سيرهم الذاتية الخاصة، من أجل الحصول على مستقبل وظيفي جيد بعد الخروج من الجيش الأمريكي، وبالتالي اقتربوا من المرتزقة الذين يؤجرون أنفسهم لمدة معينة في مهمة مؤقتة ومأجورة. إضافة إلى فساد إحساس الجندي الأمريكي بالواجب العسكري الذي يقوم به في العراق، بل في جميع حروب الولايات المتحدة التي شنتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا.
وأعادت الحكومات الأمريكية النقاش القديم حول الفروق العديدة ما بين الجنود والمرتزقة، مع أن الأعراف الدولية تضع حدوداً واضحة بينهما، فالجنود هم أشخاص يخدمون في الجيش، ولهم ولاء محدد وواضح، لا يتغير، ويضحون من أجل الدفاع عن الوطن ومصالحه. أما المرتزقة أو "القتلة المأجورون" أو "كلاب الحرب" فهم أشخاص يقتلون ويقاتلون من أجل المال، ومن أجل هوس شخصي في التميز والمجد.

ديمقراطية ومخدرات
استغلت إدارة اليمين الأمريكي في عهد جورج دبليو بوش، مقولة "نشر الديمقراطية"، ووظفتها كموضوع رئيس في السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في إثر الحرب الأمريكية على العراق وطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي كانت تسعى الإدارة الأمريكية من خلاله إلى إعادة رسم خريطة المنطقة من جديد، وبالتالي وجد اليمين الأمريكي ضالته في "نشر الديمقراطية" في هذه الكيانات، تحقيقاً لنزوع مغلف بدعوة إيديولوجية، وتسويغاً لنزعة راديكالية في السيطرة، لكنه لم ينجح في التسويق، لأن الديمقراطية ليست قابلة لعمليات الاستيراد والتصدير، وهي ليست مجرد نظام انتخابي، بل تتعلق أساساً بعملية توزيع القوة وسيادة القانون وتوازن ورقابة وسواها.
واليوم، يجادل الساسة الأمريكيون بأنهم أوجدوا ديمقراطية عراقية وأخرى في أفغانستان، لكن مجادلتهم تنطوي على تبسيط وسذاجة، لأن ما أوجدوه من أحزاب وتكوينات العراق نهضت إما على استقطاب مذهبي أو طائفي أو قبلي أو أقوامية، ومثلها مثل سائر التكوينات المصطنعة لا تمت بصلة إلى التقاليد والممارسات الديمقراطية، ذلك أن نزعات التعصب وكره الآخر ومحاولات إقصائه هي التي تلعب الدور الرئيس في تحديد الاختيارات السياسية للناس. ولا يختلف حال العراق عن حال أفغانستان، حيث عمل الاحتلال على التفكيك والتقويض والدمار العام، وأنتج تكوينات متعاونة معه، وعملت على زعزعة وحدة البلاد ضمن فوضى عارمة، وبالتالي باتت أفغانستان، اليوم، مهددة بالتقسيم القبلي، من خلال قيام سلطات محلية مستقلة في الأقاليم القبلية، الأمر الذي يهدد بنشوء صراعات قد تفضي إلى اقتتال أهلي.
ويكشف النقاش الواسع داخل الأوساط السياسية الأمريكية، والغربية، حول ضرورة حرب أفغانستان، بأن أفغانستان تحولت إلى دولة مخدرات وليس دولة ديمقراطية، وإلى أحد البلدان الأكثر فساداً في العالم. وقد اعترف ريتشارد هولبروك، أحد كبار الدبلوماسيين الأمريكيين بأن مساحات زراعة الخشخاش قد زادت أضعافاً كثيرة، بينما يقدر الجهاز الفيدرالي الروسي لمكافحة المخدرات أنها ازدادت بمقدار 40 ضعفاً عما كانت عليه في عام 2001 قبل احتلال أفغانستان، لذلك تثير زراعته في أفغانستان حفيظة روسيا، التي تعتقد حكومتها، كما قال هولبروك، أن اقتلاع زراعة الخشخاش هو مفتاح حل المسألة الأفغانية. أما هولبروك وحكومته فيرون أن محاربة المخدرات في أفغانستان ستساعد حركة طالبان على تجنيد واجتذاب المزارعين إلى جانبها، الأمر الذي يشي أن الأمريكيين يريدون احتكار زراعة الخشخاش وإنتاج المخدرات، حيث تشير الأرقام التي نشرها الجهاز الفيدرالي الروسي إلى أن 92 في المائة من هذا إنتاج المخدرات في أفغانستان يتم في الأقاليم التي تسيطر عليها قوات حلف شمال الأطلسي. وأعلن فيكتور إيفانوف رئيس الدائرة الفيدرالية الروسية لمراقبة المخدرات أن الإنتاج السنوي في أفغانستان للهيروين بلغ 820 طناً. وينجح الأمريكيون في تصدير ثلث هذه الكمية فقط، حسب إيفانوف، أما الباقي فلا يمكن بيعه، بسبب عدم وجود مستهلكين لهذا القدر من الإنتاج. ويتم سنوياً بيع كمية مخدرات بقيمة 65 مليار دولار منتجة في أفغانستان، كما يتمّ تصدير مخدرات بقيمة 17 مليار دولار، عبر ما يسمى بخط السير الشمالي، الذي يمر عبر روسيا، وتدخل 35 في المائة من هذه الكمية في روسيا ذاتها.
أخيراً، يطرح كل ذلك أسئلة حول مدى تطابق مفهوم الديمقراطية لدى الطبقة الحاكمة من ناحية، ولدى أفراد الشعب من ناحية أخرى، ويمتدّ إلى مدى نجاح الديمقراطية الأمريكية على محك التجربة، خصوصاً في إطار السياسة الخارجية الأمريكية. ولا شك أن دخول الولايات المتحدة في نهج الانفراد والغطرسة كشف عن الوجه الآخر لها. الوجه السيئ الذي يجعلها أشد مروقاً من "الدول المارقة"، من طرف استخدامها أساليب المروق ذاتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي