رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


قضاء اليوم أم قضاء الأمس ..؟

مبدأ المساواة بين الخصوم, هو من أبسط مقومات العدالة, كما دل على ذلك عموم النصوص الشرعية الآمرة بالعدل, والمحذرة من الظلم, ومنها قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما روي عنه في معنى اللي والإعراض: (هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي, فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر), وعن عمر رضي الله عنه في كتابه الشهير لأبي موسى, أنه قال له: (آسِ النَّاسَ فِي مَجْلِسِك, وَفِي وَجْهِك, وَقَضَائِك، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك), ولا ريب أن تمييز أحد الخصمين يكسر قلب الآخر, فيتسلل إليه الخور والضعف, ويشعر بأن القاضي لا يعير الحجة اهتماماً, فينقطع عن حجته, وييأس من الوصول إلى حقه, كما قال ابن القيم في الإعلام: ''إذَا عَدَلَ الْحَاكِمُ فِي هَذَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ عُنْوَانُ عَدْلِهِ فِي الْحُكُومَةِ؛ فَمَتَى خَصَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ, أَوْ الْقِيَامِ لَهُ, أَوْ بِصَدْرِ الْمَجْلِسِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ, وَالْبَشَاشَةِ لَهُ, وَالنَّظَرِ إلَيْهِ, كَانَ عُنْوَانُ حَيْفِهِ وَظُلْمِهِ..، وَفِي تَخْصِيصِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمَجْلِسٍ أَوْ إقْبَالٍ أَوْ إكْرَامٍ مَفْسَدَتَانِ إحْدَاهُمَا: طَمَعُهُ فِي أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ لَهُ, فَيَقْوَى قَلْبُهُ وَجِنَانُهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآخَرَ يَيْأَسُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَتَنْكَسِرُ حُجَّتُهُ''أهـ. فقولوا لي بربكم: هل ترقى العدالة في البلاد الشرقية والغربية إلى حد أمر القاضي بالعدل بين خصومه حتى في الدخول, والقيام, والنظر, والبشاشة..؟
إن العدل بين الخصمين في نظر الإسلام لا يصح لمنصف أن يسقطه على الممارسات الخاطئة في بعض مجالس القضاء, لأن هذه الممارسات محسوبة على أصحابها لا على الإسلام, كما لا يصح أن يكون القاضي سبباً في تشويه سمعة القضاء الإسلامي, أو تلطيخها بأخلاقيات غير مقبولة.
إن مما لا يختلف فيه اثنان, أن العدالة والمساواة بين الخصوم حق كفله الإسلام بأسمى معانيه, وبتسليط الضوء على بعض ما قرره الفقهاء, نرى كيف اهتم الإسلام بنزاهة القضاء, وتخليصه من أي شائبة يمكن أن تعلق به, حيث ذكر الفقهاء في كتبهم المتقدمة والمتأخرة والمعاصرة أموراً تقتضيها المساواة بين الخصوم, فأمروا بها رجال القضاء, وحضوهم عليها, ومما ذكروه في هذا الشأن:
1. أن يكون القاضي في وسط البلد, بحيث يصل إليه كل إنسان, ضعيفاً كان أو قوياً, ذكراً أو أنثى, مقيماً أو غريباً, فلا يليق أن يكون القاضي في مكان ناءٍ عن الخصوم, أو يشق عليهم الوصول إليه, ومن هنا كان على الجهات العدلية أن تبذل الجهد في اختيار مواقع للمحاكم يصل إليها المتخاصمون بأيسر طريق, ولو استدعى ذلك وضع مواقع للمحاكم في وسط المدينة وشمالها وجنوبها وشرقها وغربها, حتى يتم تذليل العقبات على المتخاصمين والشهود والخبراء ورجال الأمن وغيرهم.
2. أن الأولوية في الترافع للسابق من المتخاصمين, فلا يقدم المتأخر على المتقدم؛ لأنه صاحب الحق بسبقه, إلا أنهم قالوا بأحقية المتهيئ للسفر بالتقديم إذا كان الترتيب يضر به, ما لم يكن المسافرون كثراً, بحيث يتضرر المقيمون بتقديمهم, فهنا لا تدرأ المفسدة بمفسدة مثلها, وتراعى المرأة المتضررة من غيابها عن بيت زوجها, كما يراعى المريض المتضرر بطول مكثه وانتظاره. أما إذا تساوى الخصوم في القدوم, فإنه ينبغي أن يؤثر أحدهما الآخر, وإن تشاحوا أقرع بينهم. هذا فيما قرره الفقهاء قديماً, واليوم اختلف الأمر فقد أصبحت المواعيد محددة رقمياً عبر الحاسوب, وأضحت بعض الأعذار في الزمن الغابر في جملة الأمور الاعتيادية اليوم, إلا أنه ينبغي على القاضي أن يراعي بعض الظروف الاستثنائية بسلطته التقديرية التي تمليها المصلحة, وحسب.
3. أن القاضي يُدخل الخصمين معاً, فلا يُدخل أحدهما قبل الآخر, فإن كان موجوداً قبلهما وسلما عليه رد عليهما السلام, فإن كان هو القادم سلم عليهما جميعا؛ لئلا يتسلل إليهما شعور بتفضيل أحدهما على الآخر.
4. أن القاضي يساوي بين الخصوم في الجلوس ولو كان أحدهما كافراً؛ لأن العدالة لا تجب للمسلم فقط, بل هي حق له ولغيره على حد سواء, وقصة عمر رضي الله عنه مع القبطي خير دليل على هذا, واليوم توجد قاعات ومقاعد معدة للترافع, فلم تعد هناك حاجة لهذا الشرط, وكذا قرر فقهاؤنا ضرورة المساواة بين الخصوم في خطابه لهما, كما يساوي بينهما في الإنصات والاستماع إليهما, ولا يسر القاضي لأحدهما؛ لما فيه من التهمة الظاهرة, وإثارة الإحن والعداوة, وكسر قلب الآخر, وهكذا يساوي بينهما في أنواع المعاملة, باستثناء ما تدعو إليه بعض الاعتبارات الإنسانية, كما لو كان أحدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة, ومبدأ الحياد لا يعني أن يتعامل مع الخصوم بسلبية, أو أن يتجهم ويعبس في وجه الخصوم, وإنما يعني أن يعامل كلا منهما بإيجابية, وبما يحقق سير العدالة على أكمل وجه.
5. عدم تلقين القاضي لأحدهما بما يضر الآخر, كأن يريد أحدهما الإقرار فيلقنه الإنكار, أو العكس؛ لأن القاضي بذلك يقف موقف الخصم, ولا يجوز له أن يكون حكماً وخصماً في آن واحد.
6. أن الفقهاء كرهوا للقاضي أن يستعير أو يقترض أو يقبل الهدية ممن لم يتعود منه قبل القضاء الإعارة أو الإقراض أو الإهداء, وهكذا منعوه من حضوره ولائم أحد الخصمين, أو أن يقبل ضيافة من أحدهما؛ لما فيها من تهمة المحاباة.
7. عدم الإذن للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة للانحياز إلى أحد الخصمين, ولا سيما مع رقة الدين آخر الزمان, باستثناء العلم الذي يتوصل إليه القاضي من دراسة وقائع القضية, والقول بعدم قضاء القاضي بعلمه مبني على ضرورة لزومه الحياد, لئلا يقوم بدور الشاهد وهو قاض في نفس الأمر.
8. عدم السماح للقاضي بالنظر في دعوى له فيها قرابة, أو صداقة, حذراً من ميله لكفة القريب أو الصديق, فيكون الخصم والحكم ..! وهذه الفقرة، كما نبه عليها الفقهاء, فقد نص عليها نظام المرافعات في مادته التسعين, حيث منع القاضي من نظر الدعوى وسماعها في أحوال عدة, منها: إذا كان زوجاً لأحد الخصوم أو كان قريباً أو صهراً له إلى الدرجة الرابعة...الخ, وكذا نصت المادة التسعون على عدم السماح للقاضي من نظر دعوى إذا كان قد ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى, أو كتب فيها, كما سمح النظام للخصم بتنحية القاضي فيما يثير التهمة, كما لو كان له أو لزوجته دعوى مماثلة للدعوى التي ينظرها, أو كان القاضي قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته, وفق المادة الثانية والتسعين, أو كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة, يرجح معها عدم استطاعته الحكم دون تحيز. وكذلك سمح بتنحية قاضي ديوان المظالم متى ما وجد مبرر للرد, كما في المادة الخامسة والعشرين من قانون مرافعات الديوان.
9. علنية المحاكمة, وهذا المبدأ لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلا إذا كانت المرافعة بين الخصمين شفوية, وقد أخذ بذلك نظام المرافعات الشرعية في مادته الثانية والستين, ونصها: ''تكون المرافعة شفوية، على أن ذلك لا يمنع من تقديم الأقوال أو الدفوع في مذكرات مكتوبة'' والسبب في ضرورة مبدأ العلنية, هو أنه من أهم ضمانات العدالة, حتى يتسنى للجمهور الرقابة على القضاء, وهذا من شأنه أن يجعل القاضي يقظاً, ومتحرياً لما ينبغي فعله, كما أن هذا المبدأ يزيد من طمأنينة المتقاضين, ويجعلهم أكثر أماناً من تحكم القاضي, أو من انحرافه عن سير العدالة, كما أنه يجعل الدعوى معلومة للحاضرين, فيدخل في الخصومة من له بها صلة, ومبدأ العلنية أخذ به نظام المرافعات في مادته الحادية والستين, وأخذ بها نظام مرافعات ديوان المظالم في مادته الخامسة عشرة, ومبدأ الجلسات العلنية وإن لم ينص الفقهاء عليه إلا أننا نجد الواقع العملي للسنة النبوية والآثار السلفية في مجال القضاء, هو علانية الترافع في المساجد, أو غيرها من الأماكن التي كان الناس يترافعون فيها. وهنا أنبه إلى أمر أكد عليه الفقهاء, وهو أن يحضر مجلس القضاء أهل العلم والرأي والمشورة, أو ما يمكن أن نطلق عليهم اليوم بـ''المستشارين'' قَالَ الْمَازِرِيُّ:''الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالِاسْتِشَارَةِ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا؛ لِأَنَّ مَا فَكَّرَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَبَحَثُوا فِيهِ تَثِقُ النَّفْسُ بِهِ, مَا لَا تَثِقُ بِوَاحِدٍ إذَا اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ..'' علماً بأن إتاحة الفرصة لأهل العلم لمراقبة القضاة والمحامين عبر مبدأ المشورة أفضل من مراقبة العامة لهم عبر مبدأ العلانية, وكلاهما له من الأهمية مكان.
وباستعراض أدبيات الحكم التي ذكرها فقهاؤنا الأفاضل, وما ذكروه في كتب أدب القضاء المستقلة بالتأليف, مما ينحني أمامها المنصف إكباراً وإجلالاً لقيم العدالة ومفرداتها, أتساءل في فضاء العالم أجمع, شرقاً وغرباً, بكل حضاراته وممارساته, وحتى القضاء في حاضر بلادنا:
أيهما أكثر عدلاً وتحضراً: قضاء اليوم, أم قضاء الأمس..؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي