ما كان حميدان إرهابيا ولا تكفيريا
تطرقت في مقال الأسبوع الماضي للفيلم الوثائقي النبيل الذي يُطالب الرئيس الأمريكي ''أوباما'' بإطلاق سراح المعتقل السعودي في السجون الأمريكية حميدان التركي، وكنت أتوقع من الجميع التأييد للفيلم والقائمين عليه، إلا أنها تكشفت لي ثغرات لم تكن في الحسبان.
فقد تباينت الردود حول الموضوع بين مؤيد ومعارض وشامت ومثبط. وما أدهشني هم المثبطون والشامتون، وأظنهم غير مدركين لأبعاد الأمور، ولا يعلمون ما وراء الأكمة. ولم أتوقع أن يكون منا وبيننا من يشك في براءة حميدان ويصفه بالإرهاب وتمويله والتخطيط له تارة، وبالتكفير والتشدد والغلو تارة أخرى. وحتى أثبت لهؤلاء خطأ ما يعتقدون سأسرد سلوك المبتعثين السعوديين من منتصف الثمانينيات إلى بداية القرن الحالي، مستثنيا من ذلك المبتعثين الآخرين في برنامج الابتعاث من الصبية والمراهقين الذي طالبنا مِرارا وتكررا بتهذيب البرنامج وإعادة المراهقين إلى أحضان أمهاتهم.
انقسم المبتعثون خلال تلك الحقبة إلى ثلاث فئات رئيسة. قسم ركز على المهمة التي أتى من أجلها فلا يعرفون إلا جامعاتهم، ولا يرون إلا معاملهم ومكتباتهم، وحُقَّ لهم ما صنعوا، فأمريكا بلاد العلم والتقنية دون منازع. قسم آخر وهم قليل انبهروا بالحضارة المادية ففقدوا هويتهم الثقافية وأصبحوا يتأففون من كل ما يأتي من الشرق، يشعرون بالتبعية ويتصفون بالانهزامية فيستحون من قيمهم، ويتنكرون لماضيهم، غالبيتهم لم يستطيعوا إكمال البعثة بنجاح وعادوا بخفي حنين، والبعض الآخر فضل البقاء ولم يتذكر أن له وطنا أو أهلا إلا بعد أن ضغطت عليه الأزمات، وتولته النكبات، والذين أكملوا البعثة بنجاح أجسادهم هنا وقلوبهم هناك.
قسم آخر يرون أنها فرصة سانحة أنهم في بلاد لا تعرف الإسلام فآثروا الدعوة إلى الله متمسكين بقول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ لعلي بن أبي طالب ـــ رضي الله عنه ـــ: ''لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمر النعم''. هؤلاء وجدوا بيئة خصبة للدعوة ونفوس ظمأى للهداية فحملوا على أكتافهم مهمة البعثة ومهمة الدعوة إلى الله في آن واحد وفقا لقوانين البلد ومساحة الحرية المتاحة فلم َيقصِروا الناس على الدخول في دين الله، بل أتوهم طواعية، وهذه الفئة من هم على شاكلة حميدان. ومن نتاج أعمالهم وثمرة جهودهم أن أسلمت أعداد هائلة من الشعب الأمريكي أفرادا وجماعات، فقد كنت قريبا من أحد المراكز الإسلامية في إحدى الولايات إبان منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فهالني ما رأيت من إسلام الأمريكيين. فعقب كل صلاة جمعة يقف إمام المسجد ويعلن لأفواج المصلين إسلام ''ديفيد'' الذي أطلق على نفسه إسماعيل أو إسلام ''باربرا'' التي أطلقت على نفسها فاطمة، ولا تكاد تخلو جمعة من إسلام رجل أو امرأة أو عائلة بأكملها تعلن الشهادة وتدخل في دين الله، وهذا المركز عينة لما يحدث في بقية الولايات.
أمريكا لا تريد أمثال حميدان والذين معه، بل تريد الفتية والصبية الأغرار حتى تربيهم بطريقتها وتصقلهم بمعرفتها. عندما ذهب أبناؤنا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي للدراسة في الغرب، وكان جُلهم صغارا يافعين خرجوا عن قوانين البلاد وعاثوا في الأرض الفساد، فاتهموهم بسطحية التفكير، وانحراف الأخلاق، وتَتَبُّع مواطن الرذيلة، وعلى إثرها أُنتجت أفلام تعكس واقع تلك الحقبة تصور العرب أنهم لا يرون الحياة إلا جنسا وسريرا. عندها أوقفت حكومتنا ابتعاث صغار السن، وقصرت الابتعاث على الرجال الناضجين وللدراسات العليا فقط، فأسسوا المراكز الإسلامية، وغيروا الصورة، وأثروا في الثقافة الغربية، ولم يتأثروا بها فاتهموهم بالإرهاب والتخريب وطالبوا برحيل هؤلاء وعودة أولئك.
هذه قراءتي لما يحدث، فعلى الذين يتهمون حميدان ومن على شاكلته بالإرهاب أن يرجعوا إلى أنفسهم، فالوقت ليس مواتيا لتصفية الحسابات. حميدان ليس إرهابيا ولا تكفيريا، بل داعية ومقدام، وما العيب أن يكون المسلم داعية، وأنا لا أعرف حميدان شخصيا ولم أقابله أبدا، ولكنني أعرف جيدا تلك الفئة التي ينتمي إليها، فقد عشت معهم سنين عددا، سبرت أغوارهم فوجدتها نقية، وعرفت أهدافهم فرأيتها نبيلة، وأفضل وصف لهم قول الله تبارك وتعالى: ''إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى''، وأنا على يقين ـــ بإذن الله ـــ بأنه سيخرج من سجنه منصورا، وينقلب إلى أهله مسرورا.
تخيل يا من تشمت بحميدان وتتهمه بالإرهاب، لو قدر الله عليك وكنت مكانه وسُجنت ظلما وعدوانا، كيف سيكون حالك إذا حِيل بينك وبين أبنائك، وبكت عليك زوجك، وجاشت عليك أمك، وابيضت عينا أبيك من الحزن؟ عندها ليس لك ملجأ بعد الله إلا أبناء وطنك كي يفكوا أسرك، كما يفعلون اليوم مع حميدان. عودوا إلى صوابكم وقفوا مع أخيكم، ولتعلموا أن أمريكا والغرب بأكمله لن يرضى عنكم، وإن أبيتم فلا تثبطوا الناس ودعوا أصحاب الضمائر الحية تعمل، وأذكركم بحديث الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: ''من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت''.