نحن في حاجة إلى «ساهر» على الأحياء!
آلية منح الأراضي بمساحات كبيرة لأفراد يبيعونها بعد تخطيطها وتطويرها بالمزاد أو بيعها لتجار العقار الذين يقومون هم بتخطيطها وتطويرها وبيعها لمضاربين كبار بالمزادات على شكل بلكات تتداول بينهم وبين مضاربين أصغر منهم أكثر من مرة على شكل قطع أراض حتى تصل للمستخدمين النهائيين بأسعار فلكية في أحياء غير مكتملة البنية التحتية والذين يطورونها بشكل فردي على مراحل زمنية طويلة فيما تلاحق البلديات والجهات الخدمية هذه الأحياء لتطوير بناها التحتية على مراحل أيضا، آلية أفضت لمشاكل متعددة لا حصر لها جعلت من الأحياء السكنية في بلادنا والتي يسود فيها المخطط الشبكي الذي لا يراعي المتطلبات الإنسانية ورش عمل دائمة تنتج مستودعات بشرية تسمى ''مساكن''.
قضية المنح الكبيرة ليست من اختصاص البلديات ومشكلة سيادة المخططات الشبكية اللاإنسانية لا يلام عليها مسؤولو البلديات الحاليون، إذ إنها نشأت وانتشرت قبل سنوات طويلة في ظروف تاريخية معينة ولم يعمل أحد على معالجتها كونها جاءت مناسبة لمصالح لوردات العقارات الذين يحرصون على رفع قيمة كل متر مربع متاح لهم بتمديد الشوارع التجارية وتقليل الارتدادات، وبالتالي فلن ننتقد البلديات الحالية على كل ذلك.
يقول لي أحد الأصدقاء ممن اشترى أرضا وبناها في حي جديد مأهول بنسبة لا تزيد على 1 في المائة لمناسبة سعر الأرض هناك مقارنة بسعرها بالأحياء المأهولة بنسبة 20 في المائة وأكثر، يقول إنه يسكن في ورشة عمل لا تهدأ أبدا من الفجر حتى منتصف الليل حيث تنطلق أصوات الدقاقات التي تحفر الأراضي بعد صلاة الفجر مباشرة وتستمر حتى غروب الشمس وبعضها يستمر لاستثمار الوقت حتى منتصف الليل كما هو حال بعض مقاولي البنى التحتية (هاتف، ماء ... إلخ) ومقاولي حفر الآبار الذين تهز معداتهم الأرض كما تصم السمع ليلا ونهارا، أما القلابات بجميع أنواعها التي ترمي المخلفات في طرقات الحي فحدث ولا حرج، فأفضل وقت لها عند ظلام الليل الساتر وفترة الضحى، حيث يكون الرجال من سكان الحي في أعمالهم.
ويضيف صديقي هذا أن المقاولين الذين يقومون بإنشاء المساكن والعمائر التجارية لا يلتزمون بأدنى متطلبات النظافة حيث يضعون مواد البناء على الطرق الداخلية ويرمون المخلفات في كل مكان حتى أنه حوصر في فترة من الفترات، حيث أغلق المقاولون الطرق التي تؤدي لمسكنه وتركوا له مجالا ضيقا مليئا بالمسامير والبراغي وقطع الحديد التي كلفته الكثير لإتلافها إطارات سيارته وسيارات أهله وأبنائه بشكل مستمر ما يتطلب استبدالها فضلا عما يعانيه من الوقوف المتكرر في الطرق نتيجة هذه التلفيات.
في إحدى زياراتي له رثيت لحاله فهو يسكن بين أكوام الردميات التي تتحرك به الكلاب، كما تتحرك به المعدات الثقيلة والمتوسطة والعمالة من جميع الجنسيات واشتكى لي من التلوث بالأغبرة والضجيج والمناظر السيئة والقلق الأمني، حيث تتكرر سرقات المساكن تحت الإنشاء ليلا، فضلا عما يتعرض له بعض حراس الفلل المعروضة للبيع من سرقات بالإكراه، ولقد أخبرني بأنه فوجئ في ليلة من الليالي بانقطاع التيار الكهربائي عن مسكنه والمسكن المجاور فقط وعندما تفحص الأمر وجد أن المحول الكهربائي المجاور مكسور ومسروقة محتوياته، وعند قدوم طوارئ الكهرباء أخبروه أن المسروقات غير ذات قيمة، وقد يكون المستهدف سرقة منزله أو المنزل المجاور تحت جنح الظلام.
حال صديقي هذا هو حال الكثير من الأصدقاء والأقارب الذين أعرفهم وبكل تأكيد هو حال عدد كبير من المواطنين، وللمعلومية هذا الأمر ليس سائدا في الأحياء الحديثة بل أنه سائد حتى في الأحياء القديمة، فحسب الدراسات لا تزال أكثر من 40 في المائة من أراضي الأحياء القديمة غير مستخدم وكل فترة تنطلق عمليات بناء جديدة في تلك الأحياء.
التطوير الفردي الجزئي طويل المدة غير محدد استعمالات الأراضي والذي يعرض السكان لمفاجآت في نوعية الأبنية المجاورة واستخداماتها هو تطوير متعدد السلبيات مهلك للثروات قاطع للعلاقات الاجتماعية ملوث للبيئة ومضعف للأمن وكل تلك أمور عرفناها كما عرفنا أن هذا النوع من التطوير جعلنا نسكن في أحياء أقرب لورش العمل والمستودعات البشرية ولا حيلة كما نعرف للبلديات في ذلك فهي لا تملك من الأراضي سوى النزر البسيط، كما أن الأراضي المخططة والمرخصة والمتداولة ضعف المستخدمة ولا يمكن التراجع عن تلك التراخيص وتغيير المخططات، ولكن بكل تأكيد للبلديات سلطات كبيرة في تنظيم عملية التطوير والبناء من حيث حجم الأبنية ومن حيث استخداماتها ومن حيث شروط النظافة عند البناء ومن حيث أوقات العمل في الأحياء ومن حيث إزالة مخلفات البناء ونقلها إلى المرادم المخصصة وعدم السماح برمي المخلفات في طرق الأحياء كما هو سائد الآن بشكل مفزع ومحزن.
بطبيعة الحال الكثير من سكان الأحياء تواصلوا مع البلديات بخصوص معالجة المشاكل التي يعانونها من خلال تنظيم العمل بهذه الورش السكنية، لكن الحجة القائمة لا نستطيع لندرة المراقبين مقارنة بكثرة الأحياء ولاستخدام المخالفين لعلاقاتهم وإمكانياتهم في تمرير مخالفتهم والضغط على مراقبي البلدية، وبكل تأكيد هذه أعذار والمواطنون لا يريدون أعذارا بل يريدون نتائج وكل مشكلة لها حل لو عزم المسؤولون على حلها وأخلصوا في حلها وأصروا على ذلك، والأمل كل الأمل معقود على البلديات أن تطلق نظام ''ساهر'' البلديات لتحويل ورش الأحياء من ورش غير منظمة إلى ورش منظمة مرتبة نظيفة نعرف متى تعمل ومتى تقفل ينعم ساكنوها بالحماية ممن لا يردعه ضمير ولا يخيفه نظام.