هل نفكر بالرأي قبل طرحه؟
تشهد الساحة الثقافية والفكرية بين الفينة والأخرى أطروحات في مجالات عدة أشبه ما تكون بالقنابل شديدة التأثير، وذلك لأن بعض هذه الأطروحات تمس جوانب دينية، وأخرى اجتماعية. والمتابع لهذه الأطروحات لا يمكنه الأخذ بها أو رفضها لمجرد الأخذ والرفض بل لابد له من مرجعية شاملة يكون أساسها سلامة الطرح دينياً، ومناسبته اجتماعياً، وفوائده، أو المصلحة المترتبة على المدى البعيد، وكذلك القريب.
ما يطرح من رؤى وأفكار يحتاج إلى تحليل, ودراسة تأخذ في الاعتبار الطرح المؤيد، والطرح المضاد لأن في مجموع هذه الأشياء يتشكل العقل الجمعي، ويتغير المجتمع، وإن لم يكن بصورة مباشرة، فالتغير قد يحدث، ولو بعد حين، وبصورة تدريجية، وربما غير ملحوظة. شهدت ساحتنا الثقافية، ومن خلال المنابر الإعلامية خلال الفترة الماضية الكثير من الأطروحات ذات الوزن الثقيل، وقد تابع معظم الناس ما طرح، وحدثت ردود فعل يمكن وصف بعضها بالعقلاني، والبعض الآخر يمكن وصفه باللاعقلاني، أو بعبارة أدق بالانفعالي الذي يفتقد المنطق، والتبرير العلمي، أو مقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، وليس الرأي بالعاطفة.
مجموعة قضايا طرحت من قبل أفراد ليسوا نكرات في المجتمع، والكثير يعرفهم من خلال المجالات التي برزوا فيها كالإمامة، والخطابة، والقراءة، أو في مجالهم الوظيفي لكن قد لا تكون القضية، أو القضايا التي طرحوها مجال تخصص لهم يمكنهم الإبداع أو الاجتهاد بشأنها. كان الإعلام ساحة نقاش حامٍ في موضوع رضاعة الكبير، وصلاة الجماعة في المسجد، واستماع الأغاني ومن تابع الطرح، وردود الفعل يلمس حالة الهياج التي أحدثتها هذه الأطروحات لأن هذه القضايا في نظر الكثير من الناس قضايا أساسية في تماسك المجتمع، وروابطه القوية، بالإضافة إلى ضبط، واستقامة السلوك، وحماية الأفراد من الانحراف والذي لا يقتصر أثره على الفرد وحده بل يمتد ليؤثر في المجتمع وهذا ما لا يريده أي فرد ناضج، أو من لديه أدنى غيرة على المجتمع.
تساءلت وأنا أتابع الأطروحات وردود الفعل بشأنها عن الأهداف التي يتوخى أصحاب هذه الأطروحات تحقيقها، هل هم بصدد تحقيق مكسب شخصي، وذيوع وانتشار، ومريدين؟ أم أن الهدف هو إصلاح خلل اجتماعي يلحظه صاحب الفكره أو الطرح دون غيره من الناس؟! لو أخذنا قضية إرضاع الكبير، ماذا يمكن أن تعالجه هذه الفكرة أو إن شئت فقل الرأي الفقهي، هل عدمت المواضيع التي يمكن طرحها أم أن آليات تفكيرنا عجزت أو لا تريد أن تعمل إزاء قضايا أهم، وأجدر في التناول؟ المجتمع فيه الكثير من القضايا، وذات المساس بحياة الناس، وتعاملاتهم الاقتصادية، كما يوجد الكثير من التغيرات السلوكية، والاجتماعية التي تحتاج منا التفكير، وإبداء الرأي الفقهي فيها بدلاً من إشغال الناس، وإضاعة أوقاتهم في قضايا أقل ما يمكن أن يقال بشأنها إنها سخيفة.
كما تساءلت أيضاً، وأنا أتابع هذه القضايا عن أهلية صاحب الرأي العلمية، والشرعية التي تمكنه من طرح هذه القضايا، وهل أخذ في الاعتبار فقه الواقع الذي كثيراً ما نسمعه يتردد على ألسنة البعض لكنهم لا يطبقونه على أنفسهم، ذلك أن فقه الواقع في نظري يقتضي أن يدرك صاحب الرأي الواقع بصورة شمولية يدخل فيها الجانب السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والتربوي، والمحلي، والعالمي بدلاً من التركيز على زاوية واحدة في الموضوع. لو أخذنا قضية صلاة الجماعة، وعدم وجوبها، والتي طرحت على الساحة خلال الفترة الماضية هل فكر صاحب الرأي في سلبيات رأيه، وكيف سيصبح المجتمع لو طبق هذا الرأي الشاذ، هل سيعرف الجار جاره بدون المسجد، وهل سيزور الجار جاره لو لم يتعرف عليه في المسجد؟! وهل سيقدم على مساندته ودعمه؟! تساؤلات طرحتها على نفسي وتمنيت لو أن صاحب الرأي طرحها على نفسه قبل أن يدلي برأيه، ويظهر على شاشات التلفزيون مدافعاً عن رأيه الذي وجد رفضاً واسعاً. إن صلاة الجماعة تشكل مصدر قوة اجتماعية وتماسكا وترابطا في المجتمعات الإسلامية فهل نسعى للتفريط في هذا الجانب؟!
الحس التربوي يفترض أن يكون حاضراً عند من رأى إباحة الأغاني، فهل نحن بحاجة إلى شباب ينقصه اللهو، وإضاعة الوقت، ونرغب في توسيع دائرة متذوقي الغناء، أم نرغب في تنشيط سوق الأغاني منعاً للكساد؟!
بقي أن نقول إن القناعة الفردية في إرضاع الكبير، أو الصلاة في المنزل، أو استماع الأغاني يفترض ألا تقود صاحبها إلى إصدار الفتوى أو الرأي بعيداً عن التفكير في آثارها على المتلقين، كما أن على المجتمع إدراك خطورة رفع البعض فوق منزلتهم وإحلالهم منزلة العلماء وهم غير ذلك.