رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لمسة وفاء لك يا أبا صخر

تمر هذه الأيام ذكرى مرور 50 عاماً على تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط ''أوبك''. ونحن في هذه المناسبة نتذكر أحد رجالنا المخلصين الذي كان له دور كبير في تكوين تلك المنظمة العريقة، الشيخ عبد الله الطريقي ــــ عليه رحمة الله. نذكر وطنيته وإنسانيته وإنجازاته الكبيرة وحسن خُلقه وتواضعه وإخلاصه لبلده واهتمامه بمستقبل الأجيال وعبقريته وبُعد نظره وثاقب بصره وهو يرسم لنا آمال المستقبل.
وُلد ــــ رحمه الله ــــ في مدينة الزلفي الجميلة، وهي إحدى مدن نجد، وذلك في حدود عام 1918، وعاش أولى سنوات حياته فيها, ثم غادرها إلى الكويت، وانتهى به الأمر إلى مصر وهو فتى لا يتعدى عمره الـ 12 سنة، لمواصلة تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي هناك، وهو دلالة على نبوغ وطموح مبكريْن. وبعد أن أنهى الشيخ عبد الله دراسته الجامعية في تخصص جيولوجيا البترول عاد إلى المملكة. وبعد وقت قصير سافر في بعثة تعليمية إلى الولايات المتحدة والتحق بجامعة تكساس للحصول على الماجستير في التخصص نفسه، ولذلك فقد كان ربما أول مواطن سعودي يتخرج في أمريكا في مستوى الماجستير، وذلك في عام 1948، فقفل راجعاً إلى بلده حاملاً معه هموم مستقبل النفط الذي كانت تتحكم فيه شركات أجنبية عملاقة، ومملوءا حماساً وثقة بالله أن يعينه على أداء مهمته التي رسمها لنفسه, وهي محاولة تعديل موازين الاتفاقات والمواثيق التي كانت قد أبرمت بين تلك الشركات وبين الحكومات العربية المُضيفة، لتكون أكثر اعتدالاً وإنصافاً لمصلحة الشعوب العربية. وأدى ـــ رحمه الله ـــ ما أوجب على نفسه إنجازه خير أداء.
فبعد وقت قصير من عودته إلى المملكة تسلم مسؤولية مكتب مراقبة حسابات الحكومة على الدخل النفطي من شركة أرامكو، تحت مظلة وزارة المالية، وهو ما كان يتناسب مع تعليمه وطموحه. وفي عام 1954 أصبح الطريقي مديراً عاما لشؤون الزيت والمعادن، وكانت لا تزال مرتبطة بوزير المالية. وهاله ما شاهد من تفرُّد شركات النفط بالقرارات المصيرية التي تتحكم في مستقبل إنتاج ثروتنا النفطية والطُّرق الملتوية التي كانوا يتبعونها عند احتساب حصة الحكومة المُضيفة من الدخل الذي كان ينتهي بأقل مما يجب دفعه لها، ما أعطاه شعوراً بالغبن ويقيناً بجشع الطرف الأجنبي, فصرف طاقته وتفكيره بجهد فردي إلى دراسة مضمون الاتفاقيات التي تم على أساسها منحهم امتياز التنقيب عن النفط، لعله يجد الثغرات التي استطاعوا من خلالها أن يقلصوا من حصة الحكومة. ونظراً لعدم وجود مواطنين مُتخصصين في شؤون النفط آنذاك، فقد اضطر الشيخ عبد الله إلى الاستعانة بنخبة من إخواننا العرب المؤهلين، فكانوا خير عون له خلال تلك الظروف التي كان عليه أن يُواجه بها عمالقة الصناعة النفطية، بما لديها من الإمكانات الإدارية والفنية. وأدرك الشيخ الطريقي وقتها ــــ رحمه الله ــــ أهمية إرسال مجموعة من الشباب السعودي إلى أمريكا وأوروبا بعد إكمالهم التعليم الثانوي، لدراسة الهندسة والجيولوجية وبعض التخصصات الأخرى ليكونوا نواة لجيل جديد يستطيع تسيير دفة العمل في عمليات إنتاج النفط، عندما يحين الوقت المناسب، وهو ما حدث فعلاً. كما أصدر توجيهاته للشركة، كممثل للحكومة، بأن تُضاعف من جهودها في تعليم وتدريب المواطنين من موظفيها وسرعة سعودة الوظائف الفنية والإدارية، بما في ذلك ابتعاث النخب منهم للدراسة الجامعية، وهو ما آتى ثماره مُبكراً.
وكان الشيخ الطريقي ــــ رحمه الله ــــ قد وجه، بتنسيق مع وزارة المعارف، بإبرام اتفاقية تعليمية خاصة مع جامعة تكساس في أمريكا لاستقبال الطلبة السعوديين الذين سترسلهم الوزارة تباعاً لأكثر من عشر سنوات تلت. وهيأت الجامعة آنذاك برنامجاً خاصا تكفل بمتابعة دقيقة لجميع نشاطات الطلبة السعوديين الدراسية، ما ساعد إلى حد كبير على إنجاح خطة الابتعاث. وكان مُحدثكم ضمن المجموعة الأولى التي بدأ بها البرنامج في عام 1379هـ، الموافق 1959م. وطلبت منا الوزارة أن نذهب قبل السفر إلى مكتب الشيخ عبد الله الطريقي في جدة لمقابلته شخصيا, فكان ــــ رحمه الله ــــ يتحدث إلينا جماعات وأفرادا باهتمام وتواضع وكأنه واحد منا، وبيَّن لنا عِظم المهمة التي كنا مقبلين عليها, وأن بلادنا في حاجة ماسة إلى خدماتنا بعد أن نحصل على التعليم الجامعي. ولم يكتف ــــ رحمه الله ــــ بتلك المقابلة، بل عاد وزارنا في جامعة تكساس أكثر من مرة رغم كثرة مشاغله، مؤكداً حرصه على نجاح البرنامج وتمنياته لنا بالنجاح والعودة إلى الوطن. وتوالت دفعات كثيرة من الطلبة، خصوصاً إلى أمريكا، وتخرج في البرنامج عدد كبير في مختلف التخصصات العلمية.
وخلال توليه مسؤولية الإشراف على أعمال شركات النفط, تمكن ـــ بفضل من الله ثم بحماسه وعلمه وحنكته وإصراره ـــ من إحراز إنجازات هائلة تمثل بعضها في إضافة زيادة كبيرة في الدخل من عمليات النفط وأخرى تتعلق بنواح فنية مرتبطة بالإنتاج والحفاظ على نسبة معينة من الغاز الذي كان معظمه يذهب سدى. وكان قد تقدم باقتراحات وأفكار تتضمن ضرورة مشاركة الشركات النفطية في عمليات الإنتاج كخطوة أولى نحو تسلُّم جميع مهام الصناعة النفطية، وهو ما تحقق لنا ــــ ولله الحمد ــــ بعد أقل من 25 عاماً.
وبعد أن تسلم مهام وزارة البترول والثروة المعدنية كأول وزير لها في منتصف عام 1380هـ، وأطبقت شهرته الآفاق كخبير نفطي عالمي متميز. وكانت الاتفاقيات النفطية الجديدة التي تُبرم تحت إشرافه تُعتبر نموذجاً جديداً لأي اتفاقات قادمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لما كانت تحتويه من أفكار جديدة ومكاسب لأصحاب الأرض. وعندما ترك الوزارة وقرر الانتقال إلى خارج المملكة كانت بعض الدول العربية تتسابق إلى طلب مشورته لشهرته وخبرته ومهارته الفائقة في إدارة المفاوضات التي تتعلق بتعديل الاتفاقات النفطية القائمة أو الجديدة. وأبدى كذلك اهتماماً كبيراً بنشر الثقافة النفطية بين الشعوب العربية، فأنشأ مجلة دورية تصدر باسمه، ووضع عنوانها ''نفط العرب للعرب''. وكان معظم ما يُكتب في المجلة من دراسات وتحليلات اقتصادية يعكس حماسه ووطنيته. ولم يكن في يوم ما هدفه الربح المادي على الإطلاق، بدليل أنه ــــ رحمه الله ــــ مات فقيرا، على الرغم من الشهرة التي اكتسبها والمراكز التي تبوأها والأعمال الكبيرة التي أنجزها خلال حياته العملية.
كان أبو صخر بحق أمة في رجل, وكان من المؤمنين بالوحدة الاقتصادية بين الدول العربية لما لها من أهمية في تقريب وجهات النظر بين الإخوة، وطريق مباشر إلى زيادة رفاهية الشعوب العربية وإشاعة التعاون بينها. وكان عفيف النفس، نظيف اللسان، فلم يُذكر عنه أنه تعرض لنظام سياسي لا في بلده الأم ولا في الدول العربية الأخرى خلال سنوات نشاطه التي امتدت إلى ما يُقارب 20 عاماً خارج المملكة، على الرغم من أن تلك الفترة كانت مملوءة بالتقلبات السياسية والمشاحنات الحزبية على الساحة العربية.
وفي عام 1980 عاد الشيخ عبد الله إلى المملكة واستقر في مدينة الرياض مُكرَّما من قِبل المسؤولين ــــ حفظهم الله وغفر لمن توفى منهم. وشهد له معارفه وأصدقاؤه في الرياض بأنه كان ــــ رحمه الله ــــ بعد عودته ملازما للمسجد ـــ ولا نزكيه على الله. وفي عام 1990 انتقل إلى مصر برفقة ابنته التي كانت ستلتحق بإحدى الجامعات المصرية. ووافاه الأجل المحتوم في القاهرة عام 1997، وتم نقل جثمانه إلى الرياض حيث دُفن فيها. تغمده الله بوافر رحمته وجزاه عنا خير الجزاء. وحقه علينا ألا ننسى ما قدم لهذه البلاد من الإنجازات العظيمة, وأن نذكره بالخير وندعو له كلما ذكرنا اسمه. ولمن يريد أن يقرأ القصة الكاملة لحياة الشيخ عبد الله وأعماله فليطلع على الكتاب القيم الذي أعده مشكوراً أخونا المُبدع الفاضل محمد بن عبد الله السيف، تحت عنوان: ''صخور النفط ورمال السياسة'' ففيه كل ما يلزم معرفته عن سيرته وشخصيته وإنجازاته، ونحن ننصح كل مواطن بقراءته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي