الأزمة وعهد التراجع عن التعهدات
هل انفرط عقد التنسيق الدولي لمواجهة الأزمة العالمية والاقتصاد العالمي لم يكمل عافيته بعد؟ هل تراجعت الدول المتقدمة عن التزاماتها وتعهداتها بالاستمرار في التنسيق فيما بينها في سبيل مواجهة الأزمة، ولتشكيل منظومة جديدة لإدارة الاقتصاد العالمي؟ هل أصبح على الدول النامية والاقتصادات الصاعدة أن تستمع فقط إلى خطابات سياسية من الدول المتقدمة حول إصلاح الاقتصاد العالمي، فيما ترى الآن عدم التزام بإنعاش الاقتصاد العالمي، وتضارب في أولويات الدول المتقدمة حول متطلبات هذا الإصلاح؟ كل هذه الأسئلة تطرح الآن في مرحلة مهمة وحرجة يمر بها الاقتصاد العالمي.
عامان مضيا على انهيار ليمان برذرز الذي كان أكبر عملية إفلاس في التاريخ الاقتصادي، اهتزت على إثره أركان الاقتصاد العالمي، وتراجعت الثقة، وهرعت المؤسسات المالية هذه المرة ـــ وليس الأفراد ـــ لسحب مدخراتهم من البنوك الاستثمارية. هذه المرة كان الهروب هروب مستثمرين وليس هروب مودعين، في حالة كثيرة الشبه بما حدث إبان الكساد الكبير، لكنها تختلف في عناصر رئيسة. فبينما كان الهروب في أزمة الكساد الكبير يتمثل في الطوابير الطويلة من الناس التي تقف على أبواب البنوك التجارية، كان المظهر اللافت في الأزمة الحالية هو هروب إلكتروني رقمي، حيث حولت مؤسسات التقاعد وصناديق الأوقاف في الجامعات بلايين الدولارات في لحظات فقط؛ مما أدى إلى انكشاف البنوك الاستثمارية بشكل رئيس.
هذا الوضع الحرج تتطلب موقفا دوليا منسقا، فلا يمكن لدولة واحدة في عالم معولم أن تقوم بكل شيء، فتخفض أسعار الفائدة، وتزيد الإنفاق الحكومي؛ لأن آثار ذلك قد تذهب إلى الغير. البنوك المركزية الرئيسة في العالم قامت بعمل منسق لخفض أسعار الفائدة وتأمين الودائع، في عمل منسق لم يسبق له مثيل. علاوة على ذلك، انعقدت أول قمة لمجموعة العشرين خلال أقل من شهرين من انهيار ليمان برذرز ليعلن القادة خلالها أكبر حزم تحفيز مالي في التاريخ الاقتصادي. بعد ستة أشهر تقريبا أعلنت قمة لندن أكبر عملية زيادة لموارد صندوق النقد الدولي وأعلنت التزامها بإصلاح شامل للتشريعات المالية، لتنطلق بعدها عملية قادها كل من مجلس الاستقرار المالي العالمي ولجنة بازل للإشراف المصرفي لإصلاح جميع أوجه التشريعات المالية. قمة بتسبرج التي عقدت بعد عام واحد من انهيار ليمان أكملت هذه المسيرة بالتأكيد على التزامات القمتين السابقتين وإطلاق مبادرة إطار النمو القوي والمتوازن والمستدام لدول مجموعة العشرين، وأكدت على كون مجموعة العشرين المحفل الرئيس لمناقشة أمور الاقتصاد العالمي.
بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها بشكل واضح، خصوصا في النصف الأول من العام 2010، حيث حقق الاقتصاد العالمي نموا بلغ 5 في المائة مقارنة بـ -0.6 في المائة في عام 2009م، وهو ما جعل الكثير من الدول تتحدث بشكل واضح عن سياسة الخروج من التحفيز المالي لسببين رئيسَين: الأول المخاوف من التضخم، والثاني تفاقم أوضاع المالية العامة. هناك برز نقاش وجدل حاد بين الدول المتقدمة على وجه الخصوص حول أولويات الاقتصاد العالمي الحالية. ففريق يرى أهمية التأكد من اكتمال التعافي الاقتصادي الهش المعتمد على التحفيز المالي والتسهيلات التي منحتها البنوك المركزية، وفريق آخر يرى استعجال الخروج خوفا من التضخم (على الرغم من عدم ظهور بوادر تدلل عليه، عدا في بعض الاقتصادات الصاعدة كالصين)، وتفاديا لتفاقم أوضاع الدين العام وبالتالي التأثير على النمو المستقبلي. لكل وجهة نظر مقبولة، لكن هناك أولويات والتزامات وتعهدات سابقة من قبل الدول المتقدمة، خصوصا بإعطاء الأولوية للتعافي الاقتصادي.
في إطار هذا النقاش المحتدم ظهرت بوادر مشاكل اقتصادية في أوروبا، وهذه المرة ليست في البنوك، وإنما في الحكومات، حيث بدا أن اليونان لن تستطيع الوفاء بمتطلبات خدمة الدين العام لديها بسبب تجاوز عجز الموازنة لديها ما نسبته 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تفوق بشكل كبير ما تم الالتزام به في اتفاقية ماسترخت لتأسيس الوحدة النقدية الأوروبية. بدأ الجدل يحتدم بين الأوروبيين حول ما إذا كان من المهم الآن انتشال اليونان من أزمتها المالية، ووقفت ألمانيا، الاقتصاد الأقوى في أوروبا، بالمرصاد لذلك؛ لأنها ستتحمل العبء الأكبر من تكلفة هذه العملية، إضافة إلى ظهور بوادر أخرى لأزمات مماثلة في كل من أيرلندا وإسبانيا والبرتغال. مرور الوقت أدى إلى زيادة تكلفة عملية الانتشال، بسبب أن زيادة مخاطر الديون السيادية يؤدي إلى زيادة تكلفة إعادة تمويلها، وما زاد الطين بلة أنه ثبت أن اليونانيين قدموا معلومات زائفة في مستندات الانضمام للاتحاد النقدي؛ مما آثار حفيظة الألمان وآخرين وجعلهم يفرضون تدابير تقشفية حادة كشرط لأي عملية انتشال لليونان ولغيرها.
الاتفاق الأوروبي تم في بداية حزيران (يونيه) من 2010م، حيث مثل اتفاقا من ثلاثة أطراف: الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي. الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تعهدا بتأسيس صندوق بقيمة 750 مليار يورو (1 تريليون دولار) لانتشال أي من دول الاتحاد الأوروبي في حال تعرضت لأزمة في سداد التزاماتها، في حين التزم البنك المركزي الأوروبي ـــ ولأول مرة منذ تأسيسه ـــ وخلافا لمهمته الأساسية، بالتدخل في سوق السندات بشراء الديون السيادية الأوروبية لبعث الثقة فيها. هذه المرحلة مثلت نقطة فاصلة في التحول في أولويات الدول، خصوصا الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى؛ مما سيكون له أثر كبير على الاقتصاد العالمي، سأستعرضه في المقال القادم ــــ بإذن الله.