المؤسسة العامة للتدريب التقني.. رسالتها غامضة ومناهجها عتيقة
تطرقت في سلسلة مقالات سابقة عن جزئية من فلسفة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وهي رفضها القاطع مواصلة تعليم منسوبيها بحجة أنها مؤسسة تدريبية لا تمت للتعليم بصلة في الوقت الذي يعد فيه الابتعاث والتحفيز على مواصلة التعليم سمة هذه الحقبة من تاريخ بلادنا وهي بفعلتها هذه تسير عكس التيار وتفقد ولاء منسوبيها وتضع نفسها في موضع تساؤل من قبل المواطن والمسؤول.
وقد وصلتني عدة ردود من بعض منسوبي المؤسسة بين مؤيد ومعارض بعضها يتذمر من مشكلات أخرى إدارية وتنظيمية، وهذا يدل على أن بيئة المؤسسة غير محفزة وحالة منسوبيها محبطة. وقد وعت أن أطرح هذا الأمر للرأي العام في الوقت المناسب، وأعترف أنني تأخرت كثيرا في مناقشته بسبب المناسبات المتعددة التي أطلت علينا خلال الفترة الماضية من الصيف وإطلالة شهر رمضان المبارك، فعيد الفطر السعيد، أعاده الله على الجميع بالخير والبركة، كما أن الفترة الماضية كانت إجازة لجميع قطاعات التعليم، لذا وجدت أنه من الأفضل تأجيل مناقشة الموضوع.
هناك عدة أمور أرى أنها سبب جمود عمل المؤسسة منها أن رسالتها غير واضحة، إهمال التدريس باللغة الإنجليزية، وتقادم برامجها التدريبية وبعدها عن الواقع، عدم استقرار نظام الأجور، ضعف الاهتمام بالتدريب التعاوني المنتهي بالتوظيف مع القطاع الخاص والمرافق الحكومية. وحيث إنني لا أستطيع مناقشة جميع هذه المحاور فإنني أقتصر في مقالي هذا على مناقشة أهمية الرسالة وعدم التدريس باللغة الإنجليزية.
يبدو أن ''رسالة'' المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني يكتنفها شيء من الغموض، ونحن نعلم أن العمل المؤسسي إذا لم يقترن بـ ''الرسالة'' ويتقيد بـ ''الرؤية'' فستضل المنظمة طريقها وتصبح كالسفينة التي تريد أن تتجه من ميناء جدة إلى ميناء العقبة فتجد نفسها على مقربة من شواطئ الهند، فـ ''الرسالة'' للمنظمات كالبوصلة للسفن. وهذه ليست مشكلة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني بل هي سجية غالبية قطاعات الدولة ومنها المؤسسات التعليمية والأكاديمية وفي طليعتها الجامعات. الرسالة للمنظمات في بلادنا من آخر الاهتمامات الإدارية والتنظيمية رغم أنها القاعدة التي تبنى عليها الاستراتيجيات والأهداف وهي خطة من الخطة بل إنها تمثل ذروة سنام هرم الخطط. لو تم سؤال عينة عشوائية مختارة من منسوبي المؤسسة عن مضمون رسالتها فلا أظن أحدا يعرف عنها شيئا بل إن قيادات المؤسسة يترددون ويتلعثمون عندما نتطرق لهذه النقطة، وهذا يدل على أنهم يمارسون عملهم بطريقة عشوائية مبنية على اجتهادات فردية وقناعات شخصية، وعمل كهذا لا يُقبل ألبتة في مجال العمل المؤسسي. يجب أن تكون للمؤسسة رسالة واضحة ومحددة ودقيقة لا تحوى أرقاما أو أي بيانات كمية، ويجب أن يعرفها جميع العاملين ويؤمنوا بها. عندما رغبت جامعة ''ستنفورد'' تحقيق التميز اتخذت لها رسالة صيغت ببراعة حتى يسهل فهمها وتذكارها والإيمان بها وهي ''هارفرد الغرب'' اقتداء بجامعة ''هارفرد''. وها هي ''ستنفورد'' في الناحية الغربية من الولايات المتحدة صورة تحاكي ''هارفرد'' في الناحية الشرقية من البلاد.
المشكلة الأخرى البارزة التي تقيد انطلاقة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وتفقدها التقدير المحلي والاعتراف الدولي وتجعل منسوبيها يشعرون بالدونية هي اتباعها طرقا عتيقة في المناهج وطرق التدريس وعدم مواكبة العصر في ذلك، والسبب في رأيي يعود إلى عدم اعتمادها التعليم والتدريب باللغة الإنجليزية. إن تعليم وتدريب منسوبي المؤسسة باللغة الإنجليزية يكسبها عدة أمور من أهمها أنها ستحقق ميزة تنافسية، فنحن نعلم أن غالبية الشركات تشترط اللغة الإنجليزية شرطا أساسيا للتوظيف. الأمر الآخر أن التدريس باللغة الإنجليزية يربط المؤسسة بأحدث ما توصل إليه العالم من تقنيات وسلوكيات وظيفية. في إحدى الدورات التي شارك فيها في أحد القطاعات قررت اللجنة المشرفة على البرنامج التدريبي اعتماد منهج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني في تدريب بعض المواد. وعندما اطلعت على المرجع المقرر وجدته عبارة عن مذكرة هزيلة مستلة من أحد كتب التسويق من أحد الكتب العربية من الستينيات لا يمت إلى عصرنا الحاضر بصلة مما اضطر بعض منفذي البرنامج إلى استئذان اللجنة المنظمة في تغييره بما يتفق وواقعنا. أرى أن اللغة الإنجليزية مفتاح العلوم الحديثة والطريق إلى التنمية رغم أن التدريس بلغات أجنبية قد يضر بثقافتنا العربية، ولكن ليس هناك بديل في الوقت الراهن وسنظل نعتمد على اللغة الإنجليزية حتى تنشط الترجمة والتعريب، ونحن عندما ننادي الجهات التعليمية والتدريبية باعتماد اللغة الإنجليزية لغة التدريس والتدريب فإننا نهدف إلى تحقيق الجودة والاطلاع على أحدث ما توصل إليه العالم، ولكن في الوقت نفسه نطالب الجهات المعنية من جامعات ومراكز علمية ومؤسسات بحثية ودور نشر بالاهتمام بالتعريب والترجمة حتى لا تبتعد لغتنا العربية عن مستجدات ومصطلحات العصر.
بقي لي عدة محاور تتعلق بهذا الموضوع منها عدم استقرار مبدأ الأجور وعدم ربط مخرجات المؤسسة بسوق العمل على عكس الجامعات التي يجب أن تتحاشى ربط مخرجاتها ربطا مباشرا بسوق العمل لأن مخرجات الجامعات تختلف عن مخرجات كليات التقنية ومن في حكمها، ومثل هذه الأمور تحتاج إلى قدر من التفصيل لعلنا نتطرق له في مناسبات قادمة ـ بإذن الله.