رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لماذا عارض العالم خطوته المتهورة؟ وما سر موقف الرئيس أوباما؟

شغل القس تيري جونز العالم أجمع على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، قبل أن يتراجع عن تهديده المتهور والجنوني بإحراق نسخ من القرآن الكريم، حيث احتلّ تهديده عناوين نشرات الأخبار الرئيسة في مختلف شاشات التلفزة، ومختلف وسائل الإعلام الأخرى في العالم، واستدعى استنفار القوى الحيّة في العالم واستنكارها، لمواجهة إعلان القس المتهور والمعزول وثنيه عن تنفيذ خطوته الاستفزازية، التي أثارت الاشمئزاز والسخط في أماكن عديدة من العالم، كونها تعبر عن الكراهية والحقد، وتسهم في تعزيز التطرف والتعصب والإرهاب، وتحرج القوى المعتدلة، وما تمثله من مبادئ الانفتاح والتسامح والتعايش مع الآخر.

عوامل التراجع
كان يمكن للخطوة التي أعلنها القس المعزول في بلدة جينسفيل في ولاية فلوريدا، أن تشعل نار عداوات قديمة وجديدة، وأن يكون لها إرهاصات وتداعيات تذهب بالانقسام والصراع نحو أبعاد خطيرة، لكن الهبّة الدولية المستنكرة لها، عبّرت عن إجماع دولي لا نظير له ضد الخطوة المتهورة، وجاءت من مختلف الأوساط الرسمية والهيئات المدنية والشعبية، ومن جميع المراكز والمؤسسات الدينية وسواها، وأسهمت مجتمعة في تراجع القس المهووس بالشهرة والمال عن الإقدام على تنفيذ ما أعلن عنه مراراً.
ولا شك في أن موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان لافتاً وجريئاً حين اعتبر الخطوة تتعارض مع احترام قيم التنوع في النموذج الأمريكي، وحذر القس من مغبة المضي في تنفيذ ''المبادرة المدمرة والمتناقضة تماماً مع القيم الأمريكية''، بل خاطبه قائلاً ''بصفتي قائداً أعلى للقوات المسلحة فإن خطتك ستعرض فعلياً أبناءنا في الخدمة العسكرية في العراق وأفغانستان للخطر''.
وشكّل موقف أوباما، الذي اتسم بالجرأة والنزاهة, نقطة مهمة، لها وزنها وتأثيرها، وعملت على ترجيح كفة الإجماع والتكاتف، التي نجحت في ثني القس المتهور عن تنفيذ خطوته المارقة. ولم ينحن الرئيس الأمريكي أمام الحملات المسعورة التي تقودها قوى اليمين الأمريكي المتطرف ضده، خصوصاً تلك الحملات التي يقودها ما بات يعرف بـ ''حزب الشاي''، التي تتهمه بمسايرة ومحاباة المسلمين، وتشكك في دينه وأصوله الأمريكية، بل تشكك في مدى أهليته وكفاءته لقيادة الولايات المتحدة. لكن أوباما يتردد، ولم يضعف أمام الحسابات التي تتوقع انعكاسات سلبية لموقفه الحازم، حيال خطوة القس، على نتائج انتخابات الكونجرس النصفية، التي ستجري في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وتمكنت الإدارة الأمريكية، بفضل موقف أوباما الواضح، من بناء جبهة قوية متكاتفة، أفضت إلى إطلاق تيار أمريكي عريض، أجمع على إدانة جريمة الحرق، وعدم التردد عن المطالبة بمنع حدوثها، فوجهت بذلك رسالة واضحة وقوية لمن دعموا القس جونز ووقفوا معه، مفادها الحزم والرفض والاستنكار للخطوة المتهورة والاستفزازية، واستطاعت أن تضعها ضمن المحظورات، التي تقع في خانة مهددات الأمن القومي الأمريكي والمصالح العليا للولايات المتحدة، كونها ستشكل خطراً على القوات الأمريكية في أفغانستان، الأمر الذي عنى أن خطة القس لا تخص قانون ولاية فلوريدا والشرطة الفيدرالية، بل تخص أمن الولايات المتحدة، وتورطها في مواجهات خارجية، تقع مسؤوليتها على وزارة الدفاع.
ووجد القس المسعور نفسه منبوذاً، ومعزولاً حتى عن عائلته والمقربين منه، حيث اعتبرت ابنته أن والدها ''فَقَدَ عقله، ويحتاج إلى المساعدة''، فيما كشفت بعض وسائل الإعلام سجله غير المشرّف، المتضمن فضائح وانحرافات، تؤكد انحرافه عن السلوك السوي، وحبه للشهرة والمال, إضافة إلى قيام منظمات مدنية أمريكية بمبادرات مضادة للتصدي لتهديده، وأطلقت جماعات تنادي بحرية العبادة والأديان حملة في وزارة الدفاع الأمريكية، لشراء مصاحف مقابل كل مصحف قد يحرق، إلى جانب ما شهدته عواصم عالمية عديدة من مظاهرات احتجاج أمام السفارات والقنصليات الأمريكية، فضلاً عن حالة الطوارئ والتأهب الأمني في جميع الولايات الأمريكية، خاصة فلوريدا. وأسهمت جملة العوامل السابقة مجتمعة في منعه من تنفيذ تهديده.

مفاعيل الظاهرة
يمكن القول إن حرق الكتب بشكل عام، والمقدسة منها بشكل خاص، فكرة همجية، تُذكر بأفعال نظم الاستبداد والجهل والتعصب، وبالمعارك الأيديولوجية الفاشلة ضد الأفكار والآراء والمعتقدات، وترجع إلى العهود المظلمة. وتمثّل في حالة القس تيري جونز حركة بهلوانية متهورة، وذات مفاعيل ارتدادية خطيرة. ولحسن الحظ أنها لم تلق قبولاً حتى من طرف بعض المؤسسات والمنظمات المعادية للإسلام والمسلمين، إذ لم تؤيدها سوى قلة قليلة من المتطرفين والمتعصبين والعنصريين، واستدعت استنكاراً دولياً، شكّل إجماعاً عاماً، يمكن البناء عليه للتصدي لمثل هذه الحالات، التي تنشأ في سياق النزعات العنصرية والمعادية للإسلام والمسلمين، أو ما بات يُعرف بمصطلح ''الإسلاموفوبيا''. كما يمكن الاستفادة من الإدانة الدولية الواسعة لتصحيح نهج الصراع والتصادم الذي بدأه ودشنه اليمين المتطرف في الولايات المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من أيلول من عام 2001 الإرهابية. لذلك ليس مصادفة أن يربط القس المتهور جونز تهديده بالحرق بما حدث في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وبمشروع بناء المجمع الإسلامي بالقرب من الموقع التي تعرض للاعتداء في ذلك الوقت.
ويشير واقع الحال أن القس تيري جونز تعبير عن ظاهرة العداء ضد الإسلام والمسلمين، التي غذاها الخطاب الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، حيث لم يختلف خطاب اليمين الأمريكي المتشدد كثيراً عن الخطاب الأصولي الإسلامي المتشدد، من جهة سيطرة منطق الإرادة على العقل، وبما ينتج خطاب قوة صادرا عن سلطة جديدة، يتزعمها اليمين المحافظ. وحاول صانعو هذا الخطاب تحويل مختلف المفاهيم الثقافية العالمية، من جهة كونيتها وحق الجميع في امتلاكها، إلى مفاهيم محض سياسية، وفق معياريتهم الخاصة، عبر عمليات من القفز فوق مختلف الحقول ودمجها بما يتوافق مع منطق إرادوي متسلط، لا ينطق إلا بما يراه من قيم أمريكية، ولا يقرّ إلا بما يتفق مع أسلوب الحياة الأمريكية، حتى صار كل شيء يقاس وفق هذه المعيارية كي يكتسب أهلية أو مشروعية. وهكذا تحوّل الإسلام ـــ وفق هذا المنطق الفج والخاطئ ـــ إلى بنية إرهابية، تشكل خطراً مباشراً على القيم والحضارة الغربية، بعد أن تعرضت ماهيته الثقافية للتغيير والتقويل والتحوير.
غير أن الرئيس باراك أوباما حاول منذ وصوله إلى البيت الأبيض القطع مع خطاب اليمين الأمريكي، من خلال مقاربة جديدة، أعلن عنها في خطابه في جامعة القاهرة، الذي وجهه إلى البلدان الإسلامية. وتمكن من وضع حدّ لموجة العداء، أو ''الإسلاموفوبيا'' المتصاعدة في الخطاب الأمريكي. وفي هذا السياق جاء خطابه في الذكرى التاسعة لهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، ليؤكد أن ''بلاده لم ولن تكون أبداً في حرب ضد الإسلام''، وعلى تمييزه الواضح بين الإسلام كدين، ومنظمة القاعدة التي تدعي الانتماء إليه. وهو تمييز ضروري ما بين الدين وبين السياسة، وعدم الخلط بينهما، بغية القطع مع العقلية التي تحاول تذكية نار العداء والصراع والكراهية وخوض الحروب.

خلفيات وذرائع
لا شك في أن اختيار القس جونز يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) له دلالاته، بوصفه ذريعة للرد على الهجمات التي حصلت منذ تسع سنوات على برجي مبنى التجارة العالمي ومبنى البنتاجون، لكن الذريعة الخفية أعلنها عندما تراجع بفعل ضغوط عديدة عن نيته الشيطانية، وربطها بالإلغاء النهائي لمشروع الإمام فيصل عبد الرؤوف لبناء مجمع ''بيت قرطبة'' في نيويورك، الذي يضم مركزاً ثقافياً واجتماعياً إسلامياً ومسجداً، في مكان يبعد نحو 350 متراً عن الموقع المسمى Ground Zero، وهو الاسم الذي أطلقه الأمريكيون على أنقاض برجي مركز التجارة العالمي. وتحول المشروع إلى أزمة، عرفت جدلاً واسعاً في الأوساط الأمريكية منذ أشهرعدة، وجدد المشروع الهجوم على المسلمين في الولايات المتحدة ، لكن ظاهرة جونز في بعدها التاريخي والثقافي تتجاوز مناسبة الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من (سبتمبر)، وتتجاوز مشروع بيت قرطبة، وتضرب بعيداً في الانفعالات والكراهية حيال الآخر المختلف في الاعتقاد والثقافة، التي راكمتها الذهنية الأمريكية بفعل عوامل عديدة ومختلفة.
وتحول مشروع ''بيت قرطبة'' إلى نقطة جذب واستقطاب، أثارت نقاشاً حاداً ما بين من يريدون المضي في إنشاء المبنى، بناء على حقهم القانوني، الذي أقرته اللجنة الموكول إليها الترخيص في مدينة نيويورك، وبين من يعارضون بناءه، على خلفية كرههم وعدائهم للمسلمين وللإسلام، ويحاولون توظيف اعتراضات أهالي ضحايا اعتداءات سبتمبر، لإلغاء المشروع والإمعان في عنصريتهم وتمييزهم ضد المسلمين الأمريكيين، والسعي إلى تشويه صورة الإسلام.
غير أن القس جونز ليس وحده في سلوكه الغريب والشاذ والمخالف للصواب، لذلك لا يمكن القول إن ظاهرة جونز انتهت، وإن العالم تجاوز مخاطرها وتبعاتها، إذ يمكن لمتطرفين ومتشددين آخرين أن يقوموا العمل ذاته أو ما يحاكيه، طلباً للشهرة والمال، اللذين حصل على قدر منهما المهووس جونز. لذلك، فإن ما يغذي احتمال تكرار ظاهرة تيري جونز هو عنصرية ووضاعة قوى اليمين الأمريكي المتشدد، التي تسعى من خلال الاستناد إلى الشعبوية داخل الولايات المتحدة وخارجها إلى جعل الإسلام كبش فداء جديد للحصول على الدعم الانتخابي والوصول إلى السلطة، وتجد سندها، على وجه الخصوص لدى من ينتسبون إلى ''حزب الشاي''، الذين يعمدون إلى إزالة الفارق، عن قصد ودراية، ما بين الإسلام والمسلمين وبين تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية. ولا شك في أن البيئة السياسية في هذا الحزب تشكل المرتع المناسب لاكتساب أشخاص موتورين وهامشيين من أمثال تيري جونز أهمية لا يستحقونها، وفي المقابل، فإن الأوساط المتشددة والهامشية ستتسع مساحة دعمها للرد على أمثال جونز، وستجد المزيد من الذرائع لتبرير أفعالها في أنحاء العالم كافة.
ولا يخفى على أحد أن القس الهامشي والمعزول في بلدة جينسفيل الصغيرة في ولاية فلوريدا الأمريكية، لا تأتي من أتباع كنيسته، الذين لا يتجاوزون 50 شخصاً، ولا من مضمون ما حاول الإقدام عليه، بل تأتي من الدائرة الحلزونية للأصولية اليمينية، التي تنطلق في الولايات المتحدة منفلتة من عقالها، ومعتمدة على رد نظرائها في الأصولية الإسلامية المتشددة. وعليه، فإن من الضرورة بمكان الحيلولة دون أن تتمكن الأصوليات من اختطاف العلاقات بين الشعوب والديانات والحضارات والدول.
ويكشف واقع الحال أن ظاهرة جونز ليست هامشية، نظراً لتحولها إلى قضية، تضرب جذورها في الوعي الشعبوي، وعمل على تنميتها ورعايتها الخطاب السياسي غير المسؤول لليمين الأمريكي المتشدد، الذي فقد السلطة وتحوّل إلى ممانع للتغيير، ومعاد لما يحاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما القيام به، من خلال اللجوء إلى تغذية الروح الشعبوية لأنصار حزب الشاي بالعنصرية والعداء السافر للآخر. ومع الأسف فقد حقق هذا الحزب، الذي يمثل تياراً واسعاً، نجاحات في عدة ولايات أمريكية، الأمر الذي يشي بأخطار ليس على المسلمين الأمريكيين فحسب، بل على مستقبل الديمقراطية الأمريكية.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الإجماع على استنكار ما حاول جونز الإقدام عليه والوقوف في وجهه، يشكل مناسبة للرد الإيجابي من طرف القوى العربية والإسلامية، ولإعادة قراءة ما حدث بروية وتفهم للخروج باستنتاجات مفيدة وهادفة، ونبذ طريق الفصل والصراع ما بين الغرب والشرق وبين الحضارات والديانات، واستخلاص العبر المفيدة للجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي