بيانات المصلحة بحاجة إلى إعادة نظر
حددت خطة التنمية التاسعة أهدافاً طموحة لتحقيق النمو الاقتصادي والرفاه للمواطن خلال السنوات الخمس المقبلة. ومن أهم هذه الأهداف، زيادة الناتج المحلي الإجمالي على مستوى الفرد من 46 ألف ريال إلى 53 ألف ريال سنوياً (بالأسعار الثابتة حسب ما يبدو لي) خلال سنوات الخطة الخمس. دعونا أولاً نترجم هذا الرقم إلى ما يعادله بالدولار الأمريكي لنتمكن من مقارنته مع متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الدول الأخرى، 46 ألف ريال تساوي 12 ألف دولار تقريباً، وزيادته إلى 53 ألف ريال يعادل 14 ألف دولار أمريكي سنوياً. بالأسعار الجارية قدرت مصلحة الإحصاءات العامة متوسط معدل الدخل الفردي بـ71 ألف ريال أي ما يعادل 19 ألف دولار أمريكي لعام 2009. لنقارن هذا الرقم الأخير مع تقديرات كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمتوسط الدخل الفردي في المملكة التي هي أعلى من تقديرات مصلحة الإحصاءات العامة، حيث يقدره كل منهما بـ23 ألف دولار تقريباً.
لذلك، فإن الهدف الذي وضعته خطة التنمية التاسعة والمتعلق بزيادة متوسط الناتج المحلي الفردي لا يعكس في الواقع طموحاً يناسب ما تنعم به المملكة من موارد وإمكانات مادية وبشرية. فالمملكة تتمتع بأكبر احتياطي نفطي في العالم من ناحية، وتمتلك احتياطيات كبيرة جداً من الأصول والنقد الأجنبي لا تجعل من المنطق أن يكون متوسط الدخل الفردي لديها بهذا المستوى. ولكي أكون عادلاً، فإن مقارنة الرفاه الاقتصادي بين الدول باستخدام معدل الناتج المحلي الإجمالي على مستوى الفرد قد لا يكون عادلاً، لأنه يجب أخذ الخدمات الأخرى التي تقدمها الدولة بشكل مجان في الاعتبار، مثل خدمات الصحة والتعليم العالي، إضافة إلى الرسوم والضرائب التي تستقطع من متوسط الدخل الفردي للوصول إلى الدخل المتاح للفرد، الذي يعكس إمكاناته الاستهلاكية. وفي حالة المملكة، وعلى عكس كثير من الدول التي أشرت إليها، تقدم كثيرا من الخدمات بشكل مجان، كما لا توجد ضريبة دخل، لكن يظل متوسط معدل الدخل الفردي دون المستوى المطلوب، فلماذا؟
قد يكون السبب الرئيس لذلك ناتجا عن الطريقة التي تتبناها مصلحة الإحصاءات العامة لحساب الناتج المحلي الإجمالي، التي لا تعكس بصورة عادلة حركة النشاط الاقتصادي التي تتميز بها المملكة حتى خلال الأزمة المالية العالمية. والمقارنة بين معدلات النمو الاقتصادي للمملكة وبعض دول منطقة الشرق الأوسط ودول الخليج التي تأثرت بالأزمة بشكل كبير يترك تساؤلات محيرة في ذهن أي محلل اقتصادي. فدول الاقتصادات الناشئة حققت خلال عام 2009 معدل نمو بلغ في المتوسط 1.6 في المائة، بينما حققت دول منطقة الشرق الأوسط معدل نمو بلغ 2.5 في المائة، بالمقارنة مع معدل نمو للمملكة خلال نفس العام بلغ 0.6 في المائة فقط، هذا على الرغم من أن المملكة من أقل الدول تأثراً بالأزمة العالمية في منطقة الشرق الأوسط. وفي حين نجد أن النشاط الاقتصادي في الإمارات، وخصوصاً النشاط العقاري الذي كان المحرك الرئيسي لهذا الاقتصاد، تأثر بشكل ملموس وواضح بالأزمة العالمية، إلا أن ذلك لم ينعكس بشكل كبير على معدلات النمو الاقتصادي فيها، حيث حققت تراجعاً طفيفاً في عام 2009م بمعدل 0.7 في المائة. والغريب أن المملكة ومنذ بداية الأزمة تبنت حزمة تحفيز مالي تجاوزت التريليون ونصف ريال وجهت في معظمها للإنفاق على البنية التحتية، وهذا يتبعه زخم كبير من النشاط الاقتصادي، سواء في قطاع المقاولات أو في قطاع مواد البناء وجميع الخدمات المرتبطة به، مثل الخدمات المالية وخدمات النقل والتوظف وغيرها، وهذا يجب أن ينعكس بشكل واضح على معدل النمو الاقتصادي.
يبدو لي أن بيانات مصلحة الإحصاءات العامة تحتاج إلى إعادة نظر، خصوصاً ما يتعلق بحسابات الناتج المحلي الإجمالي. ومن الممكن أن جزءاً كبيراً من مشكلة حساب الناتج المحلي الإجمالي تتعلق بقطاع الخدمات الذي يمثل المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، حيث لا نلحظ نمواً يواكب الزخم الاقتصادي الكبير الذي تعيشه المملكة، خصوصاً في قطاع المقاولات. فهناك مشاريع بنية تحتية كبيرة جداً في جميع مدن المملكة تقريباً، أو في القطاع المالي، أو في الارتفاع الكبير في عدد الشركات المساهمة، أو بالمقارنة مع تدفقات الاستثمار الأجنبي.