اكشفوا العمالة المُقنَّعة
نود أن نُوضِّح هنا أننا لا نقصد بالعمالة المُقنَّعة ذلك العدد الضئيل من العمالة الوافدة التي يقف معظم أفرادها يوميا في الشوارع والميادين بحثا عمنْ يستأجرهم ليوم واحد أو لسويعات. ولكننا نعني بذلك كل عامل أجنبي حضر أو أُحْضِر إلى هذه البلاد من أجل أن يقوم بعمل لا يتطلب أي نوع من المهارات المهنية التي تتطلب دراسة وتدريبا خاصا، وهم بيننا بالملايين. ففتح الباب على مصراعيه لكل من أراد أن يجلب عمالة أجنبية غير ماهرة أضرت كثيرا بالاقتصاد الوطني للبلاد، وأغلقت أبواب الرزق على شبابنا، إلى جانب ما لوجودهم من تأثير سلبي في تركيبة وعادات المجتمع. والمستفيد الوحيد من فوضى استقدام هذه الفئة من العمالة هو ذلك المواطن الذي استغل ثغرات النظام وأحضر منْ لا مهنة له ليكسب هو وحده حفنة من الريالات من وراء كسبهم لكثير من المال. وهو لم يُدرك، أو لا يُريد أن يُدرك، أن وجود أي عامل أجنبي على أرض بلد ما يُصبح عالة على اقتصاد ذلك البلد، خصوصا عندما تكون أغلب السلع والمواد الغذائية ومصادر الطاقة مُعانة من قِبل خزانة الدولة، كما هي الحال في المملكة. فاستخدام العمالة الوافدة للمرافق العامة ومشاركتهم لنا في استهلاك المواد الغذائية والطاقة من كهرباء ومشتقات نفطية، وتوفير السكن لهم تُكلف خزانة الدولة مليارات الريالات سنويا، بينما أبناء الوطن يتمتعون ببطالة مزمنة. فالوافد الذي يعمل في المحال التجارية الصغيرة، أو ما يُطلق عليها ''الدكاكين''، المنتشرة في طول البلاد وعرضها، ليس لوجوده هنا ضرورة. والعمال الذين يقومون بخدمات محطات الوقود ليست لنا حاجة بهم ولدينا الآلاف من الشباب العاطل عن العمل. وعدد كبير من عمال الخدمات العامة في بعض المؤسسات الحكومية والأهلية من الممكن الاستغناء عنهم. ورب سائل يقول: كيف يتم ذلك وما البديل؟
فبطبيعة الحال، لا يمكن لنا تغيير التركيبة الحالية للعمالة الوافدة في وقت قصير، بل نحتاج إلى بضع سنوات مع وجود التخطيط السليم لما نود أن يكون عليه المستقبل. أما البديل، فهو المواطن الذي هو أحق بالعمل من إنسان أجنبي. ولكن ترغيب المواطن في العمل يتطلب زيادة الأجور لتتناسب مع مستوى المعيشة في المملكة، وذلك من حقهم، وهو ما نشاهده في كثير من بلدان العالم. أما أن نجلب عمالة رخيصة ونترك أبناءنا دون عمل، فهذه خدعة من صنع أيدينا. فلو استطعنا في يوم ما الاستغناء عن العمالة الأجنبية لمصلحة العمالة الوطنية، مهما بلغت تكاليف الأخيرة، لكان ذلك أجدى وأنفع لاقتصادنا الوطني. أما المكاسب والفوائد الاجتماعية من جراء إخلاء البلد من معظم أفراد العمالة الوافدة فلا حصر لها.
الأغلبية من شبابنا لا يُقبلون على كثير من الأعمال والمهن التي تقوم بأدائها العمالة الوافدة على الرغم من شدة حاجتهم إلى دخل ثابت يعيشون عليه حياتهم المستقبلية، ولكن عند ما يكون هناك إغراء مادي وتنظيم سليم في تحديد أوقات وساعات العمل، فالوضع بالنسبة إليهم ربما يتغير، خصوصا إذا ما تحلى بعضهم بالشجاعة والتحقوا بتلك الأعمال فصاروا قدوة للآخرين. ونحن من البلدان القليلة التي تسمح باستقدام عمالة غير ماهرة من أجل شغل وظائف محال البيع والشراء، بينما دور المواطن لا يتعدى كونه الزبون الذي يشتري البضاعة. ولكن الأدهى والأغرب هو أن نسبة كبيرة من الوافدين الذين يعملون داخل تلك المحال التجارية، هم في الواقع يملكون محتوياتها بتفويض من المواطن الذي استقدمهم، وهذا فيه مخالفة صريحة لنظام الاستقدام ونتيجة لغياب الرقابة. والدليل لمنْ يريد أن يعرف الحقيقة، ما عليه إلا أن يُراقب تلك الدكاكين ويُشاهد بنفسه عدد الساعات التي يقضيها العاملون فيها بين البيع والشراء، وهي في أغلب الأحوال تزيد كثيرا عن العشر ساعات خلال الـ24 ساعة. ولو كانوا يعملون بأجر شهري لكان دوامهم عادي مثل أي موظف آخر. فلماذا نحن من الأصل نسمح لمثل هذه الممارسات الخاطئة ونتركها حتى نمت وترعرعت وأصبحت عقدة في مجتمعنا يصعب حلها؟ وفي الوقت نفسه، نشتكي من ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب. هل يجوز لنا أن ندع فوضى الاستقدام تُلغي دور شبابنا في بناء مستقبل بلادهم من أجل رغبة قلة من ضعاف النفوس الذين لا تهمهم المصلحة العامة ما دام أنهم يتسلمون مبالغ زهيدة في نهاية كل شهر؟ ومن المؤسف أيضا أن تسمح الدولة لأصحاب محطات الوقود وما شابهها بأن تستقدم عمالة أجنبية وأبناؤنا عاطلون عن العمل، وهو عمل لا تتطلب تأديته أي مهارة أو تدريب. وكل ما هناك هو أن العمالة الأجنبية ظاهريا أقل تكلفة بالنسبة لصاحب العمل. ولو أن فرصة العمل أعطيت للمواطن، حيث لا يقل مرتبه الشهري عن ثلاثة إلى خمسة آلاف ريال وتحديد عمل الدورية بثمان ساعات في اليوم، بدلا من استقدام عمالة أجنبية، لكان ذلك أفضل بالنسبة للنشاط الاقتصادي المحلي بوجه عام. وليس من المنطق أن ندعو في الوقت الحاضر إلى تعميم التخلص من العمالة الأجنبية بجميع أشكالها وأطيافها، وهو مطلب وطني لم يحن وقته بعد، فهناك مهن كثيرة على بساطتها ليس بالإمكان في وقتنا الحاضر الاستغناء عنهم. ومن غير المناسب إيقاف استقدام عمال الزراعة والرعي وأعمال تنظيف الشوارع ومهنة قيادة المركبات العائلية. فعادات وخصوصيات وتقاليد المجتمع لا تسمح لمواطن أن يعمل في وظيفة سائق لعائلة سعودية إلا في حالات نادرة، حيث يكون السائق ممن تقدَّم بهم العُمر.
وقد ذكرت صحيفة ''اليوم'' التي تصدر في المنطقة الشرقية في عددها يوم الثلاثاء 29 شعبان 1431هـ، أن مكتب العمل في مدينة الدمام أوقف 132 مؤسسة مُخالفة استخرجت تأشيرات، ومن ثم أغلقت أبوابها، وهي حالات تتكرر في كل زمان ومكان في المملكة. وسؤالنا في مثل هذه المخالفات، أليس بالإمكان تتبع حاملي تلك التأشيرات من سجلات مكتب العمل وترحيل أصحابها وفرض عقوبات مالية كبيرة على الذين اقترفوا ذلك الجرم من المواطنين حتى يكونوا عبرة لغيرهم؟ أما قرار حرمانهم من الاستقدام مستقبلا فهو ليس عقابا بالمعنى الصحيح، إذ بإمكانهم العودة إلى استقدام عمالة جديدة بأسماء أخرى، وفي الوقت نفسه هم مستفيدون من العمالة التي أحضروها وتركوها سائبة.
والكل يعلم أن لدينا اليوم وزيرا جديدا للعمل، ويتأمل المتفائلون فيه خيرا، لعله يستطيع وضع حدٍّ لفوضى منح التأشيرات التي ما برحت، حسبما نسمع، تُصرف في بعض الأحوال كمنح وهدايا، وهو أمر يصعب علينا تصديقه. أما ما يحدث من تصرفات فردية وتحايل على النظام من أجل الحصول على تأشيرات واستقدام عمالة نحن لسنا في حاجة إليها، فلا تعدو عن كونها ممارسات يُمليها على فاعليها غياب الضمير.