وزير جديد وملف يحتضر

بعد أكثر من 20 عاما من الجهود التي بذلتها الدولة لتوطين سوق العمل، ما زال الوضع كما هو عليه. فنسبة السعودة في القطاع الخاص لا تتعدى 13 في المائة. جهود حثيثة، وقرارات وسياسات وعقوبات فرضتها الدولة ـــ رعاها الله، ولم تفلح هذه الجهود في رفع نسبة السعوديين العاملين في القطاع الخاص، مما يطرح تساؤلا عن جدوى تلك القرارات وتلك الجهود وكيف تم إحباطها؟! تزداد أرقام السعوديين الذين يعملون في القطاع الخاص، ويقابل ذلك زيادة موازية لها أو أكثر من العمالة الأجنبية، مما يؤكد أن الزيادة في توطين الوظائف هي زيادة ظاهرية وشكلية، وأن الاعتماد على الأجنبي في القطاع الخاص ما زال كبيرا. بل إن الوضع أصبح أسوأ بكثير من السابق، حيث وجد الأجنبي فرصة ومرونة أكثر من السابق للعمل لحسابه، فسيطر الأجانب على قطاعات اقتصادية بأكملها، وانظر إلى أسواق الخضراوات ومحال الاتصالات والذهب. ومع هذا كله، وبسبب هذا الخلل في سوق العمل، بقي الهاجس الأمني، والهاجس الاجتماعي، والهاجس الاقتصادي، محاذير تقلق كل مواطن ومسؤول مخلص لوطنه.
ما يحيرني هو التحول الذي شهدته مسيرة السعودة منذ بدأت بقرار خمسين الذي ألزم أصحاب الشركات الخاصة التي توظف 20 عاملا أو أكثر بتطبيق النسبة المقررة للسعودة في القطاع الخاص (5 في المائة سنويا)، ثم تلا ذلك جهود كبيرة من مجلس القوى العاملة برئاسة الأمير نايف بن عبد العزيز لإجبار مؤسسات القطاع الخاص لتنفيذ هذا القرار، وقرارات أخرى لسعودة قطاعات بأكملها كأسواق الخضراوات، ومحال الاتصالات، والكبائن الهاتفية، والليموزين، والبقالات، وأسواق الذهب، وغيرها من القطاعات الأخرى. الأمير نايف أسس في ذلك الوقت حلما لكل شخص بالحصول على وظيفة أو امتلاك عمله الخاص، دون مواجهة المنافسة غير الأخلاقية من العمالة الأجنبية، ولا أنسى أن الكثير من المواطنين في ذلك الوقت وجدوا فرصا للعمل في أسواق الخضراوات وكبائن الاتصالات والبقالات. بل تجاوز الأمر إلى تأسيس صندوق الموارد البشرية الذي هدف إلى مشاركة القطاع الخاص في تكلفة التدريب والتأهيل للمواطن على رأس العمل، حيث يتكفل الصندوق بنصف راتب المواطن لمدة عامين كاملين.
الآن كل تلك الجهود تحولت إلى هباء، وعاد الأجانب للسيطرة على كل تلك القطاعات، مما فاقم مشكلة البطالة، وزاد من أعباء الدولة لمواجه التبعات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية المترتبة على ذلك. لا أعلم السبب الحقيقي في التراجع الذي شهدته مسيرة السعودة، خصوصا خلال السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت في الوقت نفسه عدة أحداث قد يكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما يحدث. أولها التوجه الحثيث لجذب الاستثمارات الأجنبية دون اعتبار للقيمة الحقيقية المضافة لها على الاقتصاد الوطني، وثانيها انتقال ملف توطين سوق العمل والاستقدام إلى وزارة العمل، وثالثها وأهمها في رأيي الجهود المنظمة التي بذلها قطاع الأعمال للهجوم على مشروع التوطين، مستغلين بذلك ارتفاع معدلات التضخم التي شهدتها الأعوام الأخيرة التي جعلوا من التوطين سببا رئيسا لها. هناك أسباب أخرى بالطبع لا تحضرني، ولكن هذه العناصر الثلاثة بالذات مثلت الثالوث الذي أعلن فشل مشروع السعودة، مما جعل الكثير من أبنائنا يستجْدون الوظائف من الأجانب بدل أن يحدث العكس، وهذا أدى إلى أن تكون الدولة الملاذ الأخير لهم سواءً بتوظيفهم دون أن تكون هناك حاجة فعلية لهم، أو من خلال عيشهم وعيش عائلاتهم على نظام الضمان الاجتماعي الذي تزداد أعباؤه عاما بعد عام.
الفترة الأخيرة، شهدت نفوذا قويا لرجال الأعمال في صياغة الكثير من القرارات الاقتصادية، في مقابل ضعف في الجانب الذي يمثل المواطن، حيث أصبح الكثير من القرارات تصب في مصلحة القطاع الخاص، خصوصا ما يتعلق بسوق العمل. ومن مظاهر ذلك تقلد عدد كبير من أصحاب الأعمال مناصب عليا في الدولة تضطلع بصناعة القرار الاقتصادي، التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الرفاه الاقتصادي للمواطن. الآن وقد تولى ملف سوق العمل أحد أعمدة القطاع الخاص في المملكة وهو المهندس عادل فقيه، الذي شهد نجاحا يحسب له في القطاع الخاص، أتمنى ألا يقع تحت تأثير عشقه القديم للقطاع الخاص على حساب مصلحة المواطن، وأن يضع معاليه في اعتباره أن كل سياسة جديدة سينتهجها ستخضع أكثر من غيرها للنقد والتمحيص، باعتبار أنه قادم من القطاع الخاص. الوضع الحالي لسوق العمل في المملكة لا يبشر بخير، سواءً للمواطن أو لصاحب العمل، حيث إن استمرار ارتفاع معدل البطالة بهذا الشكل، أو محاولة تخفيض المعدل بطريقة شكلية دون اعتبار لزيادة إنتاجية حقيقية للمواطن، سيؤدي إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي المستقبلي. أضف إلى ذلك كل الاعتبارات الأخلاقية، والأمنية، والاجتماعية، التي تجعل من هذا الملف (ملف توطين سوق العمل) أهم الملفات وأكثرها تحديا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي