محللون يدعون لتفعيل الاستراتيجية السكانية الموحدة

محللون يدعون لتفعيل الاستراتيجية السكانية الموحدة

تشير نشرة اقتصادية حديثة صدرت عن الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي للعام 2009 إلى عدة حقائق رئيسية خاصة بوضعية السكان وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية بهذه الدول، أهمها أن سكان هذه الدول لا يزالون ينمون بمعدلات نمو عالية بلغ متوسطها 3.6 في المائة، كما أن 60 في المائة من هذه الزيادة ناجمة عن تدفق الأيدي العاملة الأجنبية، بينما 40 في المائة هي زيادة طبيعية، حيث إن غالبية الأيدي العمالة في دول المجلس لا تزال من الأيدي العاملة الأجنبية، وبخاصة من العمالة الآسيوية وبلغ إجمالي الوافدين من مجموع السكان 36 في المائة (13.5 مليون نسمة من مجموع 37.5 مليون نسمة) ويمكن اعتبارهم جميعا تقريبا من ضمن الأيدي العاملة بالمقارنة بـ 5.5 مليون عامل لعام 1996 أي بزيادة بنحو 145 في المائة. وتتراوح نسب العمالة الأجنبية من مجموع العمالة في دول المجلس ما بين 60 إلى 85 في المائة.
ويرى محللون أن هذه المؤشرات تقتضى من دول مجلس التعاون الخليجي إجراء مراجعة شاملة للسياسات السكانية بدولها بهدف تحقيق توازن سكاني في دول المجلس لتلافي أي خلل في التركيبة السكانية، إلى جانب تحقيق توازن بين المناطق في كل دولة بهدف الحد من الهجرة الداخلية إلى المدن، وتنمية رأس المال البشري من خلال توفير الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والتدريب بالمستويات الملائمة وزيادة المشاركة الاقتصادية للمواطنين والإناث وتطوير النظام التعليمي بما يتفق مع احتياجات سوق العمل. وفي نفس الوقت أيضا الإحلال التدريجي للعمالة الخليجية محل العمالة الوافدة وإيجاد الفرص الوظيفية ذات الإنتاجية العالية للأيدي العاملة الوطنية الداخلة إلى السوق بازدياد.
ويدعو هؤلاء المحللون إلى تفعيل الاستراتيجية السكانية الموحدة لدول المجلس خصوصا أن هذه الاستراتيجية تستهدف وفقا لما هو معلن تهيئة اقتصاديات دول المجلس للتكيف مع توجهات «العولمة» ومرحلة ما بعد قيام منظمة التجارة العالمية والتعامل بإيجابية مع ما تثيره من تحديات وتتيحه من فرص وكذلك تطوير أساليب التخطيط بدول المجلس على ضوء المستجدات الدولية والإقليمية والتأكيد على البعد التكاملي والتعاون بين دول المجلس عند التخطيط للتنمية.
إن كافة دول مجلس التعاون تتمتع بمعدلات خصوبة وولادة مرتفعة في الوقت الذي تستمر فيه معدلات الوفيات بين الأطفال في التراجع. ولقد أدى ذلك إلى بروز نسب نمو للسكان عالية وبنية سكانية فتية، إذ تشكل الفئة التي تقل أعمارها عن الـ 15 ما يزيد عن 43 في المائة في مجمل السكان. وإذا حافظت دول المنطقة على معدل نمو سكاني يبلغ نحو 3.6 في المائة سنويا فإن عدد السكان سيتضاعف في أقل من 20 عاما.
ومن المتوقع أن ترتفع أعداد خريجي المدارس الثانوية خلال السنوات الخمس المقبلة ليصل إلى نحو 8 في المائة في المعدل سنويا. ومع توجه أعداد متزايدة من هؤلاء الخريجين إلى سوق العمل سنويا بحثا عن وظيفة، ستصبح عندها إمكانية العثور على فرص عمل منتجة أكثر صعوبة.
وحتى يمكن توفير وظائف لهؤلاء فإن الضرورة تقتضي تطوير نظام جيد لاختيار وتدريب واستخدام هذه العمالة. وينبغي أن تعطي سياسة توطين الوظائف دفعة قوية دون التضحية بالكفاءة والخبرة التي توفرها العمالة الوافدة. كما أن النتائج التي قد يؤدي إليها الفشل في إيجاد حلول لمشكلة البطالة في أوساط الشباب تبدو واضحة للعيان في العديد من الدول الأخرى التي تعاني من مشاكل عدم الانتماء للمجتمع في أوساط الشباب العاطل عن العمل.
لذلك، يرى هؤلاء أن التحدي الرئيسي الذي سوف يواجه تنفيذ الاستراتيجية السكانية الموحدة هو تنمية الموارد البشرية الوطنية بدول المجلس ، خصوصا أن القوى العاملة الوطنية لا تمثل حاليا سوى نسبة تتراوح ما بين 15 في المائة و35 في المائة من إجمالي قوة العمل.
إن إمكانات دول مجلس التعاون الخليجي على خلق فرص العمل الجديدة للعمالة الوطنية التي تلتحق بسوق العمل تبدو متوفرة حيث إن هناك حاجة لخلق فرص عمل لنحو مليون شخص في دول الخليج وذلك خلال العشر سنوات القادمة. ففي أحسن الاحتمالات فإن هذا العدد يمكن استيعابه من خلال التوسع في الأنشطة الاقتصادية في السنوات القادمة خصوصا مع تحسن أسعار النفط .
ووفق التوجهات الحالية لدول المجلس والتي تطمح لأن يلعب القطاع الخاص دورا رئيسيا في تنفيذ برامج التنمية والأنشطة الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة ، فإن معظم الوظائف التي ستتوفر خلال هذا العقد والعقد المقبل ستكون في القطاع الخاص، وليس القطاع العام. كما أن معظم تلك الوظائف سيكون في حقل المهن الفنية وليس الأعمال المكتبية وذلك لأن التركيز يجري حاليا على تطوير دور القطاعات الإنتاجية والصناعية والأعمال المرتبطة بالمهارات الفنية والتكنولوجية. يضاف إلى ذلك أن ظروف العمل خلال السنوات القادمة سوف تكون أكثر تشددا سواء من حيث الامتيازات الوظيفية المتوفرة أو معدلات الإنتاجية المطلوب الإيفاء بها. كما أن الحكومات سوف تتخلي عن دورها كملاذ أخير لمن أغلقت بوجهة أبواب العمل.
وعلى الرغم من أن كبار المسئولين في مختلف دول المجلس قد أكدوا على ضرورة إعطاء الأولوية في الاستخدام إلى أبناء البلاد فإن عملية توطين الوظائف قد ظلت مقصورة في غالب الأحيان على القطاع العام دون أن تنتقل إلى القطاع الخاص بشكل فاعل حتى الآن.
والشكوى الرئيسية التي لا يفتأ رجال الأعمال في القطاع الخاص يرددونها هي أنه حتى لو أهملنا مشكلة اجتذاب أبناء البلاد إلى الوظائف الفنية فان تكلفة تأهيلهم للالتحاق بمثل هذه الوظائف باهظة. ويدعي هؤلاء أن متوسط تكلفة استخدام وتدريب خريجي المدارس المهنية من أبناء البلاد تفوق بكثير تكلفة استخدام الأجانب حتى بعد أن نأخذ في الاعتبار نفقات السفر والإسكان التي تقدم في الغالب للعمالة الوافدة. ويبدو أن الكثير من رجال الأعمال في القطاع الخاص الذين يهدفون إلى تحقيق أعلى مستوى من الأرباح قد أخذوا مسألة الاستمرار في الاعتماد على العمالة الوافدة كأمر مسلم به حتى يأتي اليوم الذي يكتسب فيه أبناء البلاد الخبرة الكافية ويصبحوا على استعداد لقبول مستويات الأجور التي تحددها قوى العرض والطلب.
كما تبرز العديد من التحديات أمام دول التعاون من أجل تنمية مواردها البشرية واستخدامها استخداما امثل في تنفيذ برامج التنمية المستقبلية. إن وضع الخطط اللازمة لتحقيق هذا الهدف يبقى هو المدخل العلمي للتعامل مع الموضوع. إلا أن هذه الخطط لن تكون مجدية إلا بالمبادرة إلى إيجاد الأجهزة التي تملك الإمكانات والصلاحيات الضرورية لتنفيذها. وسوف يكون في مقدمة مسؤوليات هذه الأجهزة تطوير سياسات وبرامج التدريب. إن التدريب ، وكافة من يتصل به من مؤسسات وبرامج ومفاهيم يبقى ركنا أساسيا وثابتا في كافة التجارب الناجمة في مجال تنمية الموارد البشرية ، مع ضرورة التركيز على ربط التعليم بالتدريب والتطور التكنولوجي من جهة ، ووجود البرامج التدريبية المكثفة الملحقة بانتهاء مراحل الدراسة المدرسية أو الأكاديمية الجامعية من جهة أخرى.
كما أن هذه الأجهزة مطالبة بتبني سياسات محددة لتنمية القوة العاملة الوطنية تستهدف استغلال الموارد البشرية المحلية وغرس القيم المتصلة بالعمل الجاد والانضباط وقبول الاحترافية بما يتمشى مع الأنماط الثقافية السائدة في المنطقة. كذلك فإن تلك الأجهزة مطالبة بإدخال تعديلات جوهرية على أنظمة التعليم التي ظل دورها محدودا لحد الآن في الوفاء بمتطلبات مجتمعاتها من المهارات والأيدي المدربة تدريبا جيدا. كذلك تبرز الحاجة لوضع برامج تثقيفية واجتماعية تبرز أهمية العمل وقدسيته خصوصا الأعمال الفنية والحرفية التي لا تزال أعداد كبيرة من أبناء البلدان الخليجية يعزفون عنها. إن تحسين ظروف عمل هذه الأعمال وخاصة التشريعات التي تحمي المشتغلين فيها ، والأجور ومزايا الضمان الاجتماعي سوف يساعد بصورة كبيرة على جذب الأيدي العامل الوطنية للاشتغال فيها.

الأكثر قراءة