أوباما .. ضغوط داخلية تدفعه إلى الهروب الخارجي

يطرح إعلان الرئيس الأمريكي بارك أوباما انتهاء المهام القتالية للجيش الأمريكي في العراق وانسحاب أكثر من 90 ألف جندي، أسئلة عديدة حول دوافع وأهداف وتوقيت هذه الخطوة، وحول الحسابات والضغوط الداخلية التي دفعته إلى اتخاذها. وتطال الأسئلة مستقبل العراق وشكل العلاقة الأمريكية معه، خصوصاً أنها جاءت في مرحلة حرجة تعصف بالعراق، مع دوام حالة انسداد الأفق السياسي، والفشل في التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة، وتصاعد أعمال العنف والقتل، إلى جانب الخراب والدمار والتفتيت الذي أصاب العراق والعراقيين بعد الاحتلال الأمريكي.

## ضغوط واستحقاقات

يريد الرئيس الأمريكي أن يصور لناخبيه وللأمريكيين كافة، أن الانسحاب من العراق، يأتي إيفاء بالوعد الذي قطعه خلال حملة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، وتنفيذا للاتفاقية الأمنية التي أبرمتها الإدارة الأمريكية مع الحكومة العراقية في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2008.

قد يكون الأمر كذلك في جانب منه، نظرا لأن باراك أوباما اُنتخب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، كي ينهي الحروب التي أشعلها سلفه الرئيس جورج دبليو بوش، بدفع من صقور المحافظين الجدد، إلا أن الاستعجال في الانسحاب من العراق، المتوقع أن يكتمل مع مطلع عام 2012، لا يخرج ـــ في الواقع ـــ عن محاولته التخفيف من وقع الصعوبات والضغوط الداخلية العديدة، التي تتزايد عليه من طرف خصومه من الحزب الجمهوري ومنافسيه، في ظل استمرار انخفاض شعبيته، حسب استطلاعات الرأي الأمريكية، وتحسبا لاستحقاقات مقبلة، حيث الانتخابات النصفية للكونجرس على الأبواب، والمرتقب أن تجري في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، إلى جانب التحضير لترشيحه لفترة ثانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فضلا عن التكلفة الباهظة للقوات الأمريكية في العراق وصعوبات أخرى.

ولم يوفر ساسة الحزب الجمهوري فرصة إلا ووجهوا ضربة للرئيس أوباما، وليست آخرها الشائعة حول إسلامه، التي عدها صادرة عن "شبكة تضليل"، وربطها الجمهوريون بتأييده لـ"حق المسلمين في ممارسة شعائرهم وبناء مراكز عبادتهم"، استنادا إلى حق أصحاب الديانات في ممارسة شعائرهم، الذي كفله الدستور الأمريكي، وجاء في سياق الجدل الذي ما زال محتدما في الولايات المتحدة الأمريكية حول بناء مركز إسلامي في مدينة نيويورك، فيما يسمى بالمنطقة زيرو، قرب موقع مركز التجارة العالمي الذي دمر في هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية عام 2001. والأدهى من ذلك أن بعض الديمقراطيين من حزبه تركوه وحيدا، وآثروا عدم الدفاع عنه في قضية تعد من وجهة نظر أمريكية حساسة جدا، كونها تتعلق بالإسلام وهجمات طالت الأرض الأمريكية.

وبات الرئيس الأمريكي محاصرا في البيت الأبيض تحت ضغط الجمهوريين وانتقاداتهم لسياساته، حيث يذهب بعضهم إلى حد القول إن أوباما غير جدير بقيادة أعظم دولة في العالم، وعاجز عن حمايتها من المخاطر، وعما تواجهه من تحديات في الداخل والخارج، فضلا عن مواجهته إرهاصات وتأثيرات الأزمة الاقتصادية واستمرار وارتفاع معدلات البطالة وأزمة الديون، وعدم وجود أفق واضح للحرب التي تخوضها الولايات المتحدة في أفغانستان إلى جانب حلف شمال الأطلسي، لذلك فإن تنفيذه لوعد الانسحاب من العراق قد يؤمّن له مخرجا، أو مهربا، من كل هذه التحديات والضغوط. وعليه، يعد الرئيس أوباما أن انتخابات الكونجرس المقبلة ستكون بمنزلة استفتاء على إدارته لشؤون الولايات المتحدة الأمريكية.

#2#

## الوضع العراقي

لم ينسَ الرئيس الأمريكي التشديد على أن انتهاء العمليات القتالية للقوات الأمريكية في العراق يؤكد سيادة الدولة العراقية، وأن ما تبقى من قوات أمريكية ستنحصر مهمتها في دعم القوات العراقية وتدريبها ومشاركتها في عمليات محاربة "الإرهاب", إضافة إلى توفير الحماية إلى الجهود الأمريكية المدنية والعسكرية، لكن المهم هو إشارته إلى أن الحرب في العراق تتجه نحو نهايتها، وأن العراق كغيره من الدول المستقلة "ذات السيادة" يملك الحرية لصياغة مستقبله.

ولا شك في أن الانسحاب الأمريكي من العراق يشكل خطوة مهمة نحو استعادة العراق لسيادته، ويزيل أحد مبررات استمرار العنف، لكنْ هنالك خوف من أن تتجه الأمور نحو مزيد من الفوضى والعنف، والدخول في أتون حرب مذهبية طاحنة، الأمر يتعلق بمدى قدرة القوى السياسية العراقية على انتهاج طريق يحقق السيادة والوحدة الداخلية، من خلال التعايش السلمي، وتحقيق المصالحة بين مختلف مكونات العراق، وإنهاء الاستقطاب الداخلي، وفك الارتهان والاستزلام الخارجي، وبما يشكل صمام الأمان الحقيقي الذي يمكنه تحقيق الاستقرار السياسي والأمني.

غير أن واقع الحال العراقي يشير إلى أن الاختلاف على تشكيل حكومة، بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الانتخابات النيابية، يشكل ظاهرة على تأكيد انتفاء المشترك بين القوى السياسية العراقية، وعلى أن انهيار الدولة المركزية، أفضى إلى بعثرة الهوية العراقية، وإلى نشوء ما يشبه دويلات تعتاش على أنقاضها، ويصعب توحيدها تحت قبة العراق الموحد. ولا تجد الأحزاب والكتل السياسية العراقية سوى لعبة المقايضة على موقع رئاسة الحكومة، وعلى اقتسام المواقع والمناصب السيادية، وعلى اقتسام منافذ الفساد ونهب العراق.

ويعكس اللهو العبثي، الدائر في عراق اليوم، الأزمة العامة في العراق، الذي تحول إلى ساحة مكشوفة، يستحيل معرفة تحولاتها الداخلية، من دون معرفة امتدادات الأحزاب الطائفية الإقليمية، ودور إيران ودول الجوار في التأثير فيها، ومعرفة موقع أطرافها في إدارة معادلة تفتقد بنى وقواعد يمكن البناء عليها، وبالتالي فإنه من المرجح أن تكون النتيجة مأسوية، في ظل استقواء القوى السياسية العراقية بعباءات ومظلات خارجية، تلعب دورها الخاص في إعادة تشكيل العراق، نحو مزيد من العنف والدمار والتآكل الناجم عن الاقتتال على الغنيمة من جانب والدعم الخارجي من جانب آخر. ويمكن القول إن الأزمة التي يواجهها العراق كبيرة، والأهم من ذلك الأخطار التي تنتظر العراقيين في المستقبل، بالنظر إلى جملة المشكلات والقضايا العالقة، وطبيعة الخلافات والصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية وكثرة التدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، وتداخلها مع الواقع الكارثي، التي ستزداد تعقيدا بعد الانسحاب الأمريكي.

## جردة حساب

على الرغم من أنه من المبكر تقديم تقييم نهائي لنتائج الحرب الأمريكية على العراق واحتلاله، إلا أن التكلفة باهظة جدا على مختلف الصعد، ويمكن أن تزداد بالنظر للمعطيات الواقعية، حيث تشير حصيلة سبع سنوات من احتلال العراق إلى المأزق الكارثي، الذي حوّل العراق إلى بلد مدمّر، يتقاذفه القتل، والتعصب، والفساد، والفوضى، والجماعات المسلحة المتناثرة، وفرق الموت المتنقلة، وطاحونة الإرهاب، ويخيّم عليه شبح الحرب الأهلية الشاملة.

ولا شك في أن التكلفة الباهظة جدا للحرب على العراق، أسهمت في إضعاف الولايات المتحدة، فضلا عن تدمير الدولة العراقية، حيث تشير التقارير إلى أن عدد القتلى العراقيين تجاوز 1.2 مليون شخص، وهاجر نحو أربعة ملايين. وقد روجت الإدارة الأمريكية السابقة لدوافع كاذبة من أجل شرعنة الحرب وتبريرها، ولم يخف ذلك وجود دوافع خفية للحرب على العراق، مصلحة إسرائيل وقوتها من ضمنها، حيث أعلنت ذلك صراحة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليسا رايس، قبيل أشهر من مغادرتها وزارتها، معتبرة أن الحرب على العراق أزالت تهديدا رئيسا لإسرائيل. ومع ذلك فإن احتلال العراق لم يسهم في منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، بل إنه قوّى طموحات العديد من دول المنطقة من أجل امتلاكها، وفي مقدمتها إيران. وفقدَ الخطاب السياسي الأمريكي مصداقيته، لأن الحرب لم تعمل على وقف الإرهاب، بل على العكس من ذلك غذته وكرسته، وبات العراق بؤرة تنتج وتجتذب الإرهاب في العالم.

وكان الساسة الأمريكيون يأملون في أن يقوم شركاء الولايات المتحدة بتسديد فاتورة الحرب على العراق، وأن يكفل النفط العراقي تعويض الخسائر الأمريكية. لكن النتيجة بعد سبع سنوات من الاحتلال هي أن المأزق الكارثي العراقي شكّل ثاني أطول حرب في التاريخ الأمريكي بعد فيتنام، واحتلّت تكلفتها الباهظة المرتبة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبحت حرب العراق تكلف شهريا الخزانة الأمريكية، مع بداية عام 2010، أكثر من 12 مليار دولار، واللافت أن مخططي البنتاجون يتوقعون استمرار هذه المصاريف حتى بعد خفض القوات إلى 50 ألف جندي. وقد كشف الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد "جوزيف ستيجليتز"، عن أن الحرب الأمريكية على الإرهاب في العراق وأفغانستان ستكلف دافعي الضرائب الأمريكيين قرابة أربعة تريليونات دولار.

ومعروف أن الإدارة الأمريكية السابقة سعت على الدوام إلى الالتفاف حول هذه التكلفة المهولة وإخفائها، في حين أن أربعة تريليونات دولار كان يمكن ـــ حسبما يبيّن ستيغليتز ـــ أن توفر ثمانية ملايين وحدة سكنية، وأن تبني 15 مليون مدرسة عمومية، وتضمن الرعاية الصحية لنحو 530 مليون طفل لعام واحد، وتؤمن منح جامعية لـ43 مليون طالب. وكان يمكنها أيضا أن تسهم في إعمار منطقة الشرق الأوسط برمتها، لكن المشكلة هي في أن جنرالات الحرب وصقورها ضيّعوا أموال الأمريكيين، وقتلوا مئات آلاف العراقيين، وجلبوا الفوضى وعدم الاستقرار لمنطقتنا التي هي في أمس الحاجة إلى الأمن والاستقرار والتنمية، بدلا من الحروب والاحتلالات والتدخلات.

ولم تعد بالإمكان تغطية فظاعة وهول المشهد العراقي بالحديث المراوغ عن النجاح في تكريس الديمقراطية وتحويلها إلى معطى سياسي على الأرض. فالوعد بالحرية التي ما انفكّت الإدارة الأمريكية تعلن عنه في تصريحات مسؤوليها، تحوّل في الواقع إلى مجرد موت يومي للشعب العراقي الذي عانى الاستبداد، ويعاني اليوم أهوال كارثة ما بعد الحرب والاحتلال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي