«التسويق» مازال مصطلحا غامضا
ذكرت من قبل أن هناك مصطلحات تستخدم بكثرة إلا أنه يُساء فهمها، إما لغموضها، وإما بسبب نقلها الخاطئ إلى العربية، أو لصعوبة تعريبها مثل: كلمة استراتيجية، بيروقراطية، ديمقراطية، تسويق، وبعض أدوات بحوث العمليات. وقد ناقشنا بعضا من هذه المصطلحات في مقالات سابقة، وفي هذا المقال نريد أن نلقي الضوء على مفهوم شاع استخدمه وقل فهمه إلا وهو مفهوم (التسويق). ماذا يقصد به؟ وكيف يختلف عن مصطلحات أخرى مشابهة مثل البيع والإعلان والترويج؟ يتعين علينا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة العودة إلى تاريخ نهضة علم التسويق ومراحل تطوره، والذي سيقودنا إلى معرفة مفهوم التسويق بشكل واضح. ورغم كثرة الأدبيات التي تكلمت عن مراحل تطور التسويق إلا أن أفضلها فيما أرى ما بينه (أبو نبعة 2004) في مؤلفه ''كيف ترفع إنتاجية موظفيك وتزيد الربحية؟''. ورغم أن عنوان الكتاب لا يعكس ما بداخله إلا أنه في رأيي أفضل مرجع عربي كتب عن تطور علم التسويق.
ولكي يبسط الفكرة قام المؤلف بالمقارنة بين تطور علم الفلك وتطور علم التسويق. فذكر أنه في القرن الـ 16 كان علماء الفلك يجدون صعوبة في تحديد تحركات الأجرام السماوية، وقد ساعدتهم حساباتهم في تقدير مواقع الكواكب بشكل تقريبي، إلا أن تلك الحسابات لم تكن دائما دقيقة، فهناك اختلافات تحدث باستمرار حتى جاء العالم البولندي ''نيقولاس'' واقترح جوابا بسيطا لهذه المسألة. افترض ''نيقولاس'' أن الشمس وليس الأرض هي مركز نظامنا الكوني، وأن الأرض تسير حول الشمس وليس العكس. وقد أثار هذا الاقتراح عاصفة من الجدل لأن الجميع كانوا يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون وليس غيرها، وقد ظلت كفرضية حتى قام ''جاليلو'' بوضعها موضع الاختبار وبرهن صحتها. وقد أحدثت هذه النتيجة انقلابا فلسفيا في الفكر العلمي.
وبالطريقة نفسها حدثت ثورة التسويق، فلم تعد الشركة هي مركز عالم الأعمال بل ''المستهلك''، وانتقل الاهتمام من مشكلات الإنتاج إلى مشكلات التسويق، ومن السلع التي يمكننا صنعها إلى السلع التي يرغب فيها المستهلك، ومن المصنع الذي ينتج إلى السوق التي تعرض. وقد بدأت ثورة التسويق بثورة علم الفلك نفسها، وستستمر في النمو ما دامت النظرية حولها قد درست واختبرت وبرهنت، نحتاج فقط إلى المزيد من تطبيقات رجال الأعمال حتى يصبح الاقتصاد حقيقة موجها نحو السوق. وحتى نعرف أبعاد هذه الثورة نحتاج إلى دراسة المراحل التي مرت بها وظيفة التسويق. فقبل الثورة الصناعية كان الطلب على السلع يزيد على المعروض لأن الحرفي مهما كان ماهرا فإن إنتاجه لا يزال محدودا. وبالتالي لم تكن هناك حاجة ماسة للتسويق لأن كل ما ينتج يباع، وكان الهدف في تلك الحقبة زيادة الإنتاج لتلبية الطلب.
بعد الثورة الصناعية أصبح بإمكان المصانع أن تنتج في دقائق ما ينتجه الحرفي في أيام، وبذا زاد الإنتاج على الطلب وامتلأت المخازن، وأصبح من الضروري إيجاد طريقة لتصريف الإنتاج فظهرت وظيفة البيع، تلتها وظيفة الإعلان، إلا أن وظيفة التسويق لم تتكون في هذه المرحلة لأن الوضع كان منصبا على بيع كمية من السلع والمنتجات (فقط بيع) وهذا لا يعنى تسويق.
بعدها ظهرت مرحلة التصنيع ''الأوتوماتيكي'' وأصبحت المصانع تعمل بشكل أوتوماتيكي فتدخل المواد الخام في المصنع لتخرج من الناحية الأخرى سلع ومنتجات دون أن يكون للعامل دور فيها. وفي هذه المرحلة تم ابتكار وظيفة (بحوث التسويق) والتي تتمثل في: معرفة ماذا يريد المستهلك؟ خوفا من إنتاج كميات كبيرة من السلع يصعب بيعها، فأصبح المصنع يتوقف عن الإنتاج حتى تصل إليه نتائج دارسات بحوث التسويق لتخبره ماذا يريد المستهلك بالضبط. و قد تم جمع هذه الوظائف لاحقا (البيع، الإعلان، بحوث التسويق) تحت وظيفة التسويق، وقد أضيف إليها فيما بعد عدة وظائف أخرى منها (الترويج، التسعير، دراسة المنتج) والتي يطلق عليها الآن في أدبيات التسويق بـ (المزيج التسويقي). وفي هذه الحقبة اكتملت وظيفة التسويق حتى أصبحت إحدى الوظائف الجوهرية لأي منظمة كالعمليات (الإنتاج) والإدارة المالية إن لم تكن الأهم على الإطلاق. وأفضل تعريف للتسويق ذاك الذي تبناه '' فيليب كوتلر'' والذي أطلق عليه المفهوم الحديث للتسويق ''التسويق هو التحليل والتخطيط والتنظيم ومراقبة موارد الشركة وسياساتها وأنشطتها التي تمس العميل بهدف تلبية حاجات ورغبات مجموعة مختارة من العملاء بربح مناسب من خلال تكامل أنشطة التسويق''. ونلاحظ في هذا التعريف أن ''كوتلر'' أضاف كلمة ''الربح'' التي يتحاشى كثير من منظري التسويق التطرق إليها عند الحديث عن التسويق حتى لا يساء فهم هذا المصطلح ويفهم أنه مرادف للبيع.
ورغم وضوح وظيفة التسويق في الآونة الأخيرة، إلا أن التسارع في تطور علم التسويق ولد تعريفا قديما وتعريفا حديثا له، فبعض الشركات ما زالت تتبنى المفهوم القديم للتسويق، إما لعدم قدرتها على الوفاء بمبادئ التسويق الحديث، وإما لعدم اطلاعها على التطورات في هذا المجال، وإما لعدم مقدرتها على التفرقة بين القديم والحديث. كما أن الخلط بين التسويق والبيع والتسويق والإعلان أدى إلى عدم الاستفادة الكاملة من مهارات التسويق. وموضوع كهذا يحتاج إلى قدر من التفصيل سنؤجل طرحه إلى مناسبات قادمة ـ بإذن الله.