جوردون جيكو يولد من جديد
في فيلم وال ستريت (1987)، يعلن جوردون جيكو في جملة شهيرة أن ''الجشع أمر طيب''. والواقع أن عقيدته تحولت إلى طبيعة غالبة على عقد كامل من التجاوزات في قطاع الشركات والقطاع المالي والتي انتهت في أواخر ثمانينيات القرن الـ 20 بأزمة سوق سندات المضاربة وأزمة المدخرات والقروض. وانتهت الحال بجيكو ذاته إلى السجن.
وبعد جيل كامل، يروي الجزء الثاني من فيلم وال ستريت ــــــــ الذي سيعرض في الشهر المقبل ــــــــ إطلاق سراح جيكو من السجن وعودته إلى عالم المال والأعمال. وكانت عودته إلى الظهور في وقت حيث كانت فقاعة الائتمان التي تغذت على ازدهار سوق الرهن العقاري الثانوي على وشك الانفجار، وكان انفجارها بالفعل سبباً في اندلاع أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن الـ 20.
إن العقلية التي ترى في الجشع أمراً طيباً تشكل سمة عادية للأزمات المالية. ولكن هل كان التجار والمصرفيون في ملحمة الرهن العقاري الثانوي أكثر جشعاً وغطرسة وبعداً عن الأخلاق من جيكو وأمثاله في الثمانينيات؟ لا أظن ذلك، لأن السمات التي تتميز بها الأسواق المالية مثل الجشع وغياب الأخلاق كانت شائعة على مر العصور.
ولن ينجح تعليم القيم الأخلاقية في المدارس التجارية في ترويض مثل هذا السلوك، ولكن تغيير الحوافز التي تكافئ الأرباح على المدى القصير وتقود المصرفيين والتجار إلى الإفراط في خوض المجازفة كفيل بترويضه. فقد استجاب المصرفيون والتجار في الأزمة الأخيرة بعقلانية لخطط التعويضات والمكافآت التي سمحت لهم بتحمل قدر هائل من الروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة) وضمنت لهم مكافآت ضخمة، ولكن ذلك كان بمثابة وصفة أكيدة لإفلاس عدد كبير من المؤسسات المالية في نهاية المطاف.
ولتجنب مثل هذه التجاوزات فلا يكفي أن نعتمد على التنظيم والإشراف الأفضل، ويرجع هذا إلى ثلاثة أسباب:
ــ إن المصرفيين والتجار الأذكياء الجشعين سيجدون دوماً السبل اللازمة للتحايل على القوانين والقواعد الجديدة.
ــ إن الرؤساء التنفيذيين ومجالس إدارات الشركات المالية ـ ناهيك عن القائمين على التنظيم والإشراف ـ لا يستطيعون أن يراقبوا بصورة فعّالة المخاطر والسلوكيات المرتبطة بآلاف من مراكز الربح والخسارة المنفصلة في أي شركة، وذلك لأن أي تاجر أو مصرفي يشكل مركزاً منفصلاً للربح والخسارة ويجازف برأسمال خاص به.
ــ إن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارات أنفسهم عُرضة للتضارب الشديد في المصالح، وذلك لأنهم لا يمثلون المصلحة الحقيقة لحاملي الأسهم النهائيين في شركاتهم.
ونتيجة لهذا فإن أي إصلاح للجهاز التنظيمي والإشرافي لابد أن يفشل في السيطرة على الفقاعات والتجاوزات ما لم تتغير عدة جوانب أساسية أخرى من النظام المالي.
أولاً، لا بد من إدخال تعديلات جذرية على خطط التعويضات والمكافآت من خلال التنظيم، وذلك لأن البنوك لن تفرض هذه التعديلات على نفسها تلقائياً خشية أن تخسر الأشخاص الموهوبين العاملين لديها لصالح المنافسين. ولابد بشكل خاص أن تحل المكافآت المستندة إلى النتائج التي تحققها الاستثمارات والمشاريع العالية المجازفة في الأمد المتوسط في محل المكافآت المستندة إلى النتائج في الأمد القصير.
وثانياً، كان من الخطأ الشديد إلغاء قانون جلاس ستيجال، الذي فصل بين العمل المصرفي التجاري والاستثماري. ذلك أن النموذج القديم من الشراكات الخاصة ـ حيث كان لدى الشركاء الحافز الذي يدفع كلاً منهم إلى مراقبة الآخرين سعياً إلى تجنب الاستثمارات الطائشة ـ أفسح الطريق أمام نموذج من الشركات العامة التي تتنافس على نحو متزايد العنف والشراسة فيما بنيها ومع البنوك التجارية في محاولة لتحقيق ربحية متزايدة النمو، وهو ما لم يكن إنجازه ممكناً من دون الاستعانة بمستويات متهورة من الاستعانة بالروافع المالية.
وبالمثل فإن التحرك من نموذج الإقراض القائم على ''الإنشاء والاحتفاظ'' إلى نموذج قائم على ''الإنشاء والتوزيع'' استناداً إلى تحويل الديون إلى أوراق مالية كان سبباً في تحويل هائل للمجازفة. ولم يتعرض أي لاعب باستثناء الأخير في سلسلة التحول إلى أوراق مالية إلى الخطر الائتماني المطلق؛ ونجح بقية اللاعبين ببساطة في جمع رسوم وعمولات باهظة.
وثالثاً، تحولت الأسواق والشركات المالية إلى مركز لتضارب المصالح. وهذه الصراعات راسخة الجذور، لأن الشركات التي تزاول الأعمال المصرفية التجارية، والأعمال المصرفية الاستثمارية، والأصول المصرفية، وتخوض في ممارسات مثل صناعة السوق والصفقات، والتأمين، وإدارة الأصول، والأسهم الخاصة، وأنشطة صناديق التحوط، وغير ذلك من الخدمات، تقف على كل جانب من كل صفقة (وكانت حالة جولدمان ساكس الأخيرة مجرد غيض من فيض).
وهناك أيضاً مشكلات ضخمة خاصة بالوكالة في النظام المالي، وذلك لأن المساهمين الرئيسين (مثل حاملي الأسهم) لا يمكنهم فرض رقابة وافية على تصرفات الوكلاء (الرؤساء التنفيذيين، والمديرين، والتجار، والمصرفيين) الذين يسعون إلى تحقيق مصلحتهم الخاصة. فضلاً عن ذلك فإن المشكلة ليست فقط أن حاملي الأسهم لآجال طويلة لا يتعرضون للظلم بسبب جشع وكلاء الأجل القريب؛ بل إن حتى حاملي الأسهم يعانون مشكلات الوكالة. فإذا لم تكن لدى المؤسسات المالية القدر الكافي من رأس المال، ولم يشارك حاملو الأسهم بقدر من أموالهم في اللعبة، فإن هذا من شأنه أن يدفع الرؤساء التنفيذيين والمصرفيين إلى الإفراط في الاستعانة بالروافع المالية وخوض المجازفات، وذلك لأن صافي ثرواتهم الخاصة غير معرض للخطر.
وفي الوقت نفسه، هناك مشكلة الوكالة المزدوجة، حيث لا يسيطر حاملو الأسهم النهائيين ـ حاملو الأسهم الأفراد ـ بشكل مباشر على مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين. ويتولى تمثيل حاملي الأسهم أولئك المستثمرون المؤسسيون (صناديق معاشات التقاعد وما إلى ذلك) الذين كثيراً ما تضعهم مصالحهم وأجنداتهم وعلاقاتهم في معسكر الرؤساء التنفيذيين والمديرين. وعلى هذا فإن الأزمات المالية المتكررة ترجع أيضاً إلى نظام فاشل في إدارة الشركات.
ورابعاً، ليس من الممكن بأي حال السيطرة على الجشع من خلال مناشدة الأخلاق والقيم في الناس. فالسيطرة على الجشع لن تتسنى إلا بفعل الخوف من الخسارة، ولابد أن ينبع هذا الخوف من إدراك مفاده أن المؤسسات الطائشة المتهورة لن يتم إنقاذها. والواقع أن عمليات الإنقاذ الشاملة التي شهدتها الأزمة الأخيرة ـ رغم أنها كانت ضرورية لتجنب الانهيار العالمي أدت إلى تفاقم مشكلة الخطر الأخلاقي. ليس فقط فيما يتصل بإنقاذ المؤسسات المالية الأضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس، بل لقد تفاقم التشوه سوءاً بعد أن أصبحت هذه المؤسسات أضخم حجما ـ بسبب عمليات الدمج في القطاع المالي. وإذا كانت أي مؤسسة أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس فهذا يعني أنها أضخم مما ينبغي لها حقاً ولابد من تفكيكها.
وما لم نطبق هذه الإصلاحات الجذرية، فإن أمثال جوردون جيكو، وتشارلز بونزي، الجدد سيستمرون في التكاثر. وفي مقابل كل جيكو نال عقابه وولد من جديد ــــــ مثل جيكو في الجزء الثاني من فيلم وال ستريت ــــــــ فإن المئات من أمثاله الأكثر شراسة والأشد جشعاً سيولدون.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010
www.project-syndicate.org