بطالة الاستثمار واستثمار البطالة
الاستثمار الأجنبي المباشر في شكله البسيط هو معادلة بين طرفين, يقع الاقتصاد المحلي في الطرف الأول من المعادلة, وتقع الشركات العالمية في الطرف الآخر من المعادلة, لا يمكن لهذه المعادلة أن تكتمل دون تعاون كلا طرفي المعادلة.
لا شك أن نجاح الاقتصاد المحلي في استدامة العلاقة مع الشركات العالمية نجاح ينعكس بالإيجاب على متانة الاستثمار الأجنبي المباشر داخل الاقتصاد المحلي. لكن النجاح الأكبر والأكثر استدامة عندما ينجح الاقتصاد المحلي في استثمار وجود استثمارات الشركات العالمية داخله بدمج كوادره الوطنية بما يضمن تأهيل هذه الكوادر وتنميتها.
من إحدى المعلومات المهمة التي أصدرها ''بحث القوى العاملة لعام 1430هـ ـــ 2009'' الصادر عن مصلحة الإحصاءات العامة, أن معدل البطالة بين السعوديين وصل العام الماضي إلى 10.5 في المائة. يتزامن هذا الإصدار مع ظهور مجموعة من الانتقادات الموجهة إلى الهيئة العامة للاستثمار حول دورها في معالجة البطالة وتهيئة الكوادر الوطنية من خلال ما استقطبته من استثمارات أجنبية، ونجاحها في التقدم من المرتبة 14 إلى الثامنة خلال العام الحالي، حسب ''تقرير الاستثمار العالمي 2010'' الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ''أونكتاد''.
يقودنا هذا التباين في أداء الهيئة العامة للاستثمار بين نجاحها في جلب الاستثمارات الأجنبية وتواضع دورها في دمج الكوادر الوطنية ضمن هذه الاستثمارات إلى النظر في تجربة الاقتصاد الهندي قبل قرابة عقد من الزمن عندما اختل التوافق بين طرفي معادلة الاستثمار الأجنبي، من جهة، والاقتصاد الهندي من جهة أخرى، وانعكاسات هذا الاختلال على مصداقية الاستثمار الأجنبي لدى المجتمع الهندي.
سجلت مؤشرات الاقتصاد الهندي نهاية الألفية الماضية مستويات قياسية تبشر بنهضة اقتصادية واجتماعية شاملة تنتظر الاقتصاد الهندي في المستقبل القريب، وممهدةً الطريق للارتقاء بالاقتصاد الهندي إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة. شجعت هذه المؤشرات الاقتصادية عددا ليس بالقليل من الشركات العالمية على مشاركة الاقتصاد الهندي نهضته عن طريق فتح قنوات استثمارية مباشرة في مجالات اقتصادية هندية عديدة. من هذه الشركات العالمية شركة المطاعم الأمريكية الشهيرة ''ماكدونالدز''.
دخلت ''ماكدونالدز'' السوق الهندية في أواخر التسعينيات الميلادية، مدعومة بخبرتها الطويلة في التعامل مع أسواق ناشئة ومتقدمة مختلفة، وإمكاناتها الضخمة التي طورتها منذ تأسيسها في منتصف الخمسينيات الميلادية. اختارت ''ماكدونالدز'' آلية الامتياز للدخول في السوق الهندية عندما أعطت حق الامتياز لإحدى الشركات الغذائية الهندية. بدأت ''ماكدونالدز'' بافتتاح قرابة 30 مطعما في مختلف المدن الرئيسة الهندية، مع التمركز بشكل أساسي في كل من نيودلهي ومومباي. لم تكن عملية دخول ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية بالمهمة اليسيرة, حيث لم تلبث أن طفت على السطح عديد من التحديات التسويقية والتشغيلية عندما عزف المستهلك الهندي عن شراء منتجات ''ماكدونالدز'' الشهيرة من الوجبات السريعة، ومخيباً آمال ''ماكدونالدز'' في الانتشار، والاستقرار في السوق الهندية.
فمن جهة، تعد ''ماكدونالدز'' أكبر مستهلك عالمي للحم البقري، عطفاً على اعتماد خطوط إنتاج ''ماكدونالدز'' على اللحم البقري، كمادة أولية رئيسة لإنتاج معظم وجباتها. ومن جهة أخرى، يعد البقر كائنا مقدسا لدى شريحة كبيرة من الشعب الهندي، عطفاً على معتقدات الطائفة الهندوسية، التي تشكل قرابة 80 في المائة من تعداد السكان.
تمحور حجر الزاوية، إذاً، حول الكيفية التي ستتعامل بها ''قتلة البقر'' مع ''عبدة البقر''؟
هل تتوقف ''ماكدونالدز'' عن قتل البقر؟ هذا يعني إيقاف خط الإنتاج الاستراتيجي. هل تستبدل ''ماكدونالدز'' لحم البقر بلحم الخنزير؟ هذه يعني أنها ستفقد قرابة 15 في المائة من حجم الشريحة المستهدفة، عطفا على أن المسلمين يشكلون قرابة 15 في المائة من أفراد الشعب الهندي. هل تخرج ''ماكدونالدز'' من السوق الهندية؟ هذا سيؤثر سلبا في تنافسيتها في السوق العالمية. ما الحل إذاً لتفادي هذه التحديات التسويقية والتشغيلية؟
طورت ''ماكدونالدز'' وجبة تعتمد على لحم الماعز بدلاً من لحم البقر، وأطلقت عليها اسم ''مهراجا ماك''، لتحل بديلاً عن ''بيج ماك''. كما طورت وجبة أخرى تعتمد على لحم الدجاج المذبوح على الطريقة الإسلامية ''حلال''، وأطلقت عليها اسم ''تيكا ماك''، لتحل بديلاً عن ''ماك تشيكن''. وطمعاً في إرضاء ذوق المستهلك الهندي، أضافت ''ماكدونالدز'' مزيجا من التوابل الهندية الشائعة إلى مكونات كلتا الوجبتين. لم تتوقف عملية تطور المنتجات عند هذا الحد، بل تعدتها لتشمل نسخة من هذه الوجبات تعتمد على الخضراوات بدلا من اللحوم، وذلك تلبية لرغبة شريحة النباتيين الهنود، التي تشكل النسبة المتبقية من الشريحة المستهدفة.
لم تشفع كل هذه الوجبات الجديدة لـ ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية، واستمر المستهلك الهندي في المقاطعة السلمية لمنتجات الشركة. حيث تمحور حجر الزاوية هذه المرة حول شبهات احتواء الزيت النباتي الذي تستخدمه ''ماكدونالدز'' على مشتقات اللحم البقري، ما يعني احتمالية فقدان كل شرائح المستهلك الهندي من الهندوس، والمسلمين، والنباتيين. اتخذت المقاطعة هذه المرة منهجية أكثر فاعلية عندما قام ثلاثة رجال أعمال أمريكيين، من أصل هندي، برفع دعوى قضائية على ''ماكدونالدز'' في أمريكا، ومدعمة بنتائج مخبرية تثبت احتواء الزيت النباتي على مشتقات من اللحم البقري. لم تلبث الدعوى طويلا في أروقة المحاكم الأمريكية حتى حكم لمصلحة رجال الأعمال وملزمةً ''ماكدونالدز'' ليس بدفع غرامة مقدارها عشرة ملايين دولار أمريكي فحسب، إنما بإصدار اعتذار رسمي للسوق الهندية تعترف فيه بفشل مصداقيتها مع المستهلك الهندي.
لم تتوقف المقاطعة عند النطق بالحكم، بل تطورت لتتخذ أشكالاً عسكرية وسياسية مختلفة, حيث انتقلت الأخبار سريعاً من قاعة المحكمة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، دافعة مجموعة من المستهلكين الهنود إلى النزول إلى الشارع، ومهاجمة أحد مطاعم ''ماكدونالدز''، ومحدثة أضرارا مادية قدرت بنحو 50 ألف دولار أمريكي. تزامن هذا الهجوم مع اعتصام مجموعة أخرى من المستهلكين الهنود أمام مكتب رئيس الوزراء الهندي بيهاري واجيابي، مطالبة بإغلاق جميع مطاعم ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية. لم تجد ''ماكدونالدز'' من حل سوى إعادة هيكلة عملياتها التشغيلية والتسويقية بعد ستة أشهر من دخولها السوق الهندية بما يتوافق واحتياجات المستهلك الهندي، ولا يتعارض مع ثوابته ومعتقداته. جنت ''ماكدونالدز'' ثمار إعادة هيكلة العمليات بعد عدة سنين عندما احتفلت بالاستمرار في افتتاح فروع جديدة.
تقودنا تجربة الاقتصاد الهندي مع الاستثمار الأجنبي إلى النظر في واقع سمات البطالة السعودية من واقع ''بحث القوى العاملة لعام 1430هـ ـــ 2009'' الصادر من مصلحة الإحصاءات العامة. اتسمت شريحة العاطلين عن العمل خلال الفترة ذاتها بأربع سمات. السمة الأولى، ديمغرافية، حيث إن معظم العاطلين عن العمل هم من فئة الشباب ذوي الأعمار 20 إلى 25 سنة بنسبة 43.8 في المائة، ففئة الشباب ذوي الأعمار 26 إلى 35 سنة بنسبة 27.4 في المائة، ثم فئة الشباب الأقل من 20 سنة بنسبة 22.5 في المائة. والسمة الثانية، تعليمية، حيث إن معظم هؤلاء العاطلين عن العمل هم من حملة شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها بنسبة 34.35 في المائة، فحملة شهادة البكالوريوس بنسبة 28.3 في المائة، ثم حملة الشهادة المتوسطة بنسبة 13.61 في المائة. والسمة الثالثة، جنسية، حيث إن الشريحة الأكبر من العاطلين عن العمل هم من فئة الذكور بنسبة 74 في المائة، مقابل 26 في المائة من فئة الإناث. والسمة الرابعة، جغرافية، حيث إن وجود معظم هؤلاء العاطلين عن العمل في المنطقة الشرقية بنسبة 40.2 في المائة، فمنطقة الرياض بنسبة 18.9 في المائة، ثم منطقة مكة المكرمة بنسبة 15.8 في المائة.
التباين في أداء الهيئة العامة للاستثمار بين نجاحها في جلب الاستثمارات الأجنبية وتواضع دورها في دمج الكوادر الوطنية ضمن هذه الاستثمارات تساؤل يستأنس التوضيح من الهيئة.