أوضاعنا الاجتماعية و التنظيمية أفرزت أنماطا قيادية شاذة
قسم الفكر الإداري أنماط القيادة وفقا لممارستها إلى ثلاثة أنماط رئيسة: القائد الاستبدادي والذي يطلق عليه (الأتوقراطي)، والقائد الديمقراطي، والقائد الفوضوي. وجميع أدبيات إدارة الأعمال لم تخرج كثيرا عن هذه الأصناف الثلاثة. إلا أن هناك عدة عوامل أدت إلى بروز أنماط قيادية شاذة أصبحنا نلاحظها في كثير من منشآتنا. في الآونة الأخيرة ظهرت أنماط قيادية شاذة أثرت في السلوك التنظيمي والبشري وأفرزت عادات، وأعرافا، وقيما لم نعهدها من قبل. ورغم أن هذه الأنماط لم تؤصل بعد في الفكر الإداري، إلا أننا نلاحظ ظهورها في المنظمات التي انتشرت فيها البيروقراطية، والواسطة، وتعظيم الولاء للمدير على حساب المنظمة.
والآن دعونا نتعرف بشيء من التفصيل إلى هذه الأنماط القيادية الشاذة وعلى أهم خصائصها. أبرز أنوع القياديات الشاذة التي نراها في بيئاتنا التنظيمية هو ما أفضل أن أطلق عليه القائد ''التوحدي''، وأسميته ''توحدي'' لأنه اعتاد الانطواء وتكيف مع الوحدة، يهاب التجمعات ومواجهة الحشود كما أنه يتحاشى الظهور إلا عند الضرورة. ويبدو أن هناك عوامل وراثية وتربوية و بيئية ساعدت على تشكيل هذا النمط. وقد انعكست شخصيته على منظمته فأصبحت أشبه ما يكون بالنظام المغلق الذي لا يؤثر ولا يتأثر بالبيئة، فتعيش منشأته بمعزل عن المجتمع. يتظاهر هذا النمط بالعدالة لأن معايير التقييم لديه مغلوطة نتيجة انعزاله وبعده عن المصادر الحقيقية للمعلومات، فهو لا يعلم ما يدور حوله، ولا يبذل أدنى جهد لقياس مصداقية المعلومة طالما وثق بمصدرها. يبذل الشيء الكثير ليخفي شخصيته غير السوية، ويبدو وكأنه واثقا من نفسه إلا أنه ليس كذلك. هذا النوع يحارب الجودة والإبداع ويخاف من التغيير.
النمط الثاني يطلق عليه ''الأناني المتملق'' وأرى أنه أخطر أنواع القيادة وسمي ''أناني'' لأن عادة الإيثار ليست من صفاته، فيحب أن يستأثر بكل شيء في المنظمة من مواد، وأدوات، وآلات، وقوى عاملة. لذا فهو يبدأ بنفسه ومكتبه وما يدور حوله ويرمي بالفتات لموظفيه. يسعر للفتن والتناحر خفيه، يتميز بابتسامة تخفى وراءها كل مكر، يتصيد الأخطاء ويحمل الحقد إلا أن ليس من طبعه الغضب. فمن أبرز ما يميز هذا النوع أنه لا يغضب بسهولة. هذا النمط يبدو عليه الهدوء والعقلانية ويتصنع محبة الناس إلا أن شخصيته تتعرى عندما تتهاوى مصالحه، لذا أرى أن هذا النمط سيتحول مع الوقت إلى قائد ''توحدي'' نتيجة ابتعاد الناس عنه بسبب غموضه وتصرفاته المريبة.
النمط الثالث من أنماط القيادات الشاذة التي ظهرت في الآونة الأخيرة ما أفضل تسميته بـ ''الفقيه المتسارع''. ''فقيه'' لأنه يدعى أنه يفقه كل شيء و''متسارع'' لأنه متعجل في قراراته ومتهور في أفعاله، لا يحسب للعواقب حساب، يزج بنفسه ومنظمته في الأزمات. وهذا النوع ليس أنانيا بل على العكس يُؤثر معاونيه وموظفيه ويكرمهم على حساب نفسه، يريد أن يبني علاقات ود مع مرؤوسيه إلا أنه يفتقر إلى آليات بناء جسور المحبة مع العنصر البشرى. يتصف هذا النوع بضيق الأفق واختلاق الصراعات علانية. ورغم أنه يتميز بسرعة الحركة وعلو الصوت إلا أنه متواضع البديهية، بسيط التفكير، محدود القدرات، يهتم كثيرا بالتوافه، تنطلي عليه كثير من الحيل والمواقف. وهذا النمط أقل خطورة من ''الأناني المتملق'' لأنه أكثر وضوحا ويمكن ترويضه بسهولة.
هذه الأنماط الثلاثة من أكثر الأنماط القيادية الشاذة شيوعا والتي برزت حديثا في منظماتنا كممارسات فعلية نتيجة عدة عوامل منها: تكيف سلوكيات الموظفين مع الأوضاع التنظيمية والاجتماعية، وجنوح العمل الإداري في بيئاتنا التنظيمية عن مسيرته الطبيعية، وإذعان المجتمع ومؤسسات الدولة لظاهرة ''الواسطة'' التي انتشرت وتأصلت كمبدأ وكوسيلة قوية نتيجة الدعم الاجتماعي والإرث الثقافي.
وفقا لموروثنا الإسلامي تعتبر ''الواسطة'' مرادفاً للشفاعة، ووفقا لعادتنا القبلية تعتبر ''الواسطة'' مرادفا لبذل الجاه. والجاه أحد الأعراف القبلية الموروثة، وقد كانت تستخدم في الجاهلية وصدر الإسلام وهي التي أصلت كثيرا من المعاملات المالية الإسلامية كمبدأ ''الكفالة''. لذا ترسخت جذور ''الواسطة'' في مجتمعنا وأصبحنا ننظر إليها كفضيلة بدعم من المرجعية الدينية والعادات القبلية، ومجتمعنا مزيج من هذا وذاك.
كما أن هناك أسباب أخرى لتفشي الأنماط القيادية الشاذة منها عدم ترسيخ القيادات التنظيمية أسلوب الخلافة الذي نادي به ''جالفن'' ومارسته أعداد كبيرة من عمالقة الشركات التي تعد رائدة في مجالها. وموضوع كهذا يحتاج منا إلى تفصيل في مناسبات قادمة ـ بإذن الله.
وأخيرا أرى أن إهمال تنمية القيادات أحد أسباب تفشى الأنماط القيادية الشاذة. فأغلبية المنشآت لا تؤمن ببرامج إعداد القادة وترى أن القائد أنزه من أن يتلقى دورة تدريبية في القيادة ويمكن أن يكتسب خبرته القيادية من الميدان ويتعلم حتى اتخاذ القرارات الاستراتيجية عن طريق المحاولة والخطأ. وهناك جهات أكاديمية ومعاهد عليا في بلادنا تقدم برامج إعداد القادة كجامعة الملك سعود ومعهد الإدارة العامة ومدرسة إعداد القادة التابعة للقوات الجوية. إلا أننا نلاحظ عزوف كثير من الجهات عن الاستفادة من هذه البرامج لأسباب لا نعرفها.