رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بطولات وهمية على واقع الهزيمة وتسطيح للعقل العربي

بات في حكم العرف، الذي لا رجعة عنه، وفي شهر رمضان المبارك، أن تحتشد قنوات التلفزة العربية، الأرضية منها والفضائية، بعشرات المسلسلات التلفزيونية، التي تحتل المشهد العام، وتسلب عقول المشاهدين القابعين أمام شاشاتها الصغيرة، الذين لا حول لهم سوى متابعة ما تقدمه القنوات بشغف وانفعال، علّهم يجدون ما يسرّهم وينفعهم، ويشبع حاجتهم للفرجة والترفيه، وذلك على الرغم من كثافة الأعمال الدرامية واختلاط وتنوع موضوعاتها، واختلاف مستوياتها الفنية، والتي لا تترك في معظمها أي أثر يذكر بعد الانتهاء من مشاهدتها.

منظور ثقافي

أضحت المسلسلات التلفزيونية الرمضانية ظاهرة موسمية، تتكرر كل عام، طوال الشهر الفضيل، وتطرح تساؤلات حول الكم الكبير من المسلسلات الكوميدية والدرامية والتاريخية والاجتماعية والبوليسية، التي تحشر دفعة واحدة خلال شهر واحد.
وتدعو هذه الظاهرة، التي تستحق الوقوف عليها، إلى القول إن المسلسلات الرمضانية حوّلت المشاهد العربي إلى متفرّج جاهز بامتياز، بوصفه فرداً في مجتمع الاستهلاك، تحدده الصورة التلفزيونية، وكائناً تواصلياً، حيث التواصل يحدث في جهة واحدة، من المرسل إلى المرسل إليه، لاغية بذلك تبادل المواقع في عملية التواصل. ولا شيء في الوجود يمكن أن يدرك خارج رغبة الإنسان الدفينة في أن يكون أكثر من فرد معزول، لأن ما لا يتحقق عنده في الواقع يعيشه في شكل أحلام واستيهامات، وصور دفينة قد لا يدرك وجودها بشكل واع، وخصوصاً أن أحلام السواد الأعظم من المشاهدين العرب معطلة، وآماله قليلة ومحدودة، ووقته رخيص جداً، ويعاني حالة من انسداد الأفق، تتخللها فراغات عاطفية ونفسية كبيرة، لذلك يحاول العثور في شخصيات المسلسلات الدرامية على صور تعويضية، وعلى ملجأ للنسيان في الأحداث والقصص الدرامية، ووسيلة للتعويض عن الفشل والهزائم والخيبات الفردية والجماعية، من خلال التماهي بالأبطال الوهميين، ذوي الطاقات غير المحدودة، وما عليه سوى ترقّب مصائرهم والعيش مع مسراتهم وأحزانهم ومغامراتهم، بل وتقليد سلوكهم وحركاتهم أحياناً.
وعند تناول الأعمال الدرامية الرمضانية وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، إذ نادراً ما نعثر على مسلسل يحترم عقل المشاهد، ويقدم له عملاً فنياً مميزاً، ويمتلك موضوعاً ذي قيمة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، بل أن عديد من المسلسلات لا تحترم الثقافة والمثقفين، وتسخر أحياناً من صورة المثقف، وتهزأ من أدواره. وأسهمت مثل هذه الأعمال في نسج عقل يمكن تسميته بالعقل التلفزي، يتكون من خليط من العقول التي تفرض نفسها في الخطاب الشائع، بوصفه العقل الوحيد الموثوق، إذ يحتقر هذا العقل كل ما يمت بصلة إلى الفلسفة والأدب والشعر، أي كل شيء ليس له أو لا يحقق مردودية اقتصادية بمقتضى معيارية وأخلاقيات اقتصاد السوق. ويطرح هذا العقل الأسئلة والاستفسارات ذاتها في مختلف المسلسلات الدرامية، حيث يتم تلفيق الأجوبة ذاتها، في إجماع مستغرب حول "الأسئلة ذاتها و"الأجوبة" ذاتها، إنه التواطؤ الذي يُحلّ الاستفسارات محل الأسئلة، ويميّع الأجوبة.

وسيلة التثقيف

أصبح التلفزيون، في أيامنا هذه، وسيلة الثقافة الأسرع نفاذاً إلى عقل المشاهد العام، بل تحوّل إلى وسيلة التثقيف الوحيدة بالنسبة لملايين المشاهدين، والمقلق في الأمر هو أن ما يقدمه من ثقافة ضحلة وخالية من البعد المعرفي، يبعث على الكسل وتغييب الخيال، وتسبب الخمول العقلي، وخاصة أنه يمكن للتلفزيون أن يسهم في تقديم جانب مهم من الثقافة البصرية التي لا غنى عنها لدى الإنسان. لكن في ظل غياب وسائل المنافسة والتعدد، التي توفر للمشاهد حرية الاختيار، وافتقاد القدرة على التمييز وفضاء التنوع والاختلاف، فإن المادة التلفزيونية المقدمة في سوق قنوات التلفزة العربية هي مادة سريعة الاستهلاك، وسريعة الهضم والذوبان، حيث إن كل مادة تأتي أسوأ من سابقتها، وكأن المادة التلفزيونية تحوّلت إلى ثقب ماص للمضامين المعرفية والثقافية، يُذيب كل ما يأتيه في فوضى إنتاج يضيع فيها المعنى والمبنى.
لقد صار المشهد التلفزيوني المعّد مسبقاً آلة تنسج عقل المشاهد وفق متطلبات أصحاب القنوات الفضائية والقائمين عليها، حيث تبرز الصورة التلفزية، التي تضع مختلف الحواس خلف العين، كي تحول التلفزيون إلى ما يشبه بوابة الجسد إلى الذات الآخر والعالم والأشياء، وذلك بعد أن أوجدت القنوات التلفزيونية لغة ــ الصورة التلفزية كنظام يحمل خصوصيته الوسيطية المتناسبة مع مُثل وقيم أصحاب الشركات المنتجة والراعية للمسلسلات، وبما يخدم قضايا اقتصاد السوق ومصالح أقطابه الرئيسة. تلك اللغة التي تقترب من لغة العامة لملايين النساء والرجال، وتحمل الحكاية والمعلومة ببساطة واستسهال وتلفيق، محولة الكائن إلى مجرد رقم عارض وبسيط في مجتمع المشهد المسلوب.
وإذا كانت الصورة هي صياغة لسانية محددة‏، بواسطتها يجري تمثيل المعاني تمثيلاً مبتكراً ومركزاً، بما يحيلها إلي صورة مرئية معبرة،,‏ فإن هذه الصياغة المتفردة والمتميزة تنقل في ثوان معدودة مشاهد كثيرة من العالم. وأضافت الصورة التلفزية أبعاداً جديدة لملامح الحياة الإنسانية منذ النصف الأخير من القرن الماضي. وكان من الضروري الاستفادة من هذه الفرصة السانحة لصياغة نوع جديد من الحوار مع المشاهد، عبر لغة تخاطب الوجدان من خلال الصورة‏، لكن مع الأسف الشديد‏، ومع زيادة وطأة الفوضى الدرامية، لم تتم الإفادة من ذلك في الدراما العربية.
ويمكن القول إن المسلسلات التلفزيونية تلعب دور المداهم والمستحوذ والمستفرد والآسر للمشاهد العربي خلال شهر رمضان، لكن المفارقة هي توزعه بين أجواء تعيد رتق جوانب مفقودة لديه في الإيمان والإحسان، والتفكير بوضع الآخر، الفقير والمحروم، ويستعيد بعض إنسانيته، وبين التنميط والتسليع والصراع على إرادة الوعي لديه، بوصفه أحد أفراد جمهور بدأ يغفل عن همومه وقضاياه، حيث تقدم له وجبات ثقافية خفيفة، ومقشرة من السياسة، بمعناها المدني، وبعيدة كل البعد عن حاجاته الأساسية وأولوياته، وتقذفه بعض فنون الصورة الدرامية نحو كل ما يبعث على الحزن والموت، وأخرى تحث على القتل والإرهاب وأخرى، تقف على النقيض تماماً، ويمكن وصفها بالفنون الملائكية، لأن تحتوي من صفات الأنبياء أكثر مما تتضمنه من صفات البشر من عامة الناس. وكي لا تكون الصورة قائمة، فإنه وسط الكم الكبير من المسلسلات الرمضانية، يمكن العثور على عمل أو أكثر يحترم عقل المشاهد، ويراعي أحاسيسه، ويحثه على التفكير بما هو عليه، ولو بالحدود التي يسمح بها مقص الرقيب العربي.

الدراما التلفزيونية

لا شك في أن الدراما التلفزيونية هي فن حديث، له منطقه الخاص، وأدواته الخاصة، ينهض على التخييل الفني ومحاكاة الواقع المعاش، أو محاكاة التاريخ، من خلال تناول أحداث جرت فيه، وأخرى يمكن خلقها وتخيلها. وهي في مجملها عمل فني جماعي بطبيعته، يخضع على الدوام لتدخل المخرج ورؤية الفنان الممثل، وكاتب السيناريو وسواهم، وكل واحد منهم يمتلك معطياته الخاصة، إلى جانب امتلاكهم خلفيات فكرية وثقافية، لكن المخرج هو المايسترو الموجه للعمل، ويمتلك زمام العمل وما يريد أن يلفت إليه انتباه المشاهدين، وبالتالي فإن العمل الدرامي يحاول إعادة تشكيل ثقافة المتلقي وفق وجهة نظر القائمين على العمل. وعليه، فإن هناك مسؤولية ثقافية في الدراما التلفزيونية، حيث يمكن للثقافة التلفزيونية الإسهام، بشكل أو بآخر، في تشكيل أو صياغة وعي الناس، وتؤثر في أفكارهم ومعتقداتهم، وقد تقودهم إلى تبني نزعات أو عصبيات فكرية وإيديولوجية، أو قد تجعلهم أناساً لا مبالين وبعيدين عن الهمِّ العام.
ونظراً لخضوع الإنتاج التلفزيوني للمنافسة، ولثنائية العرض والطلب في سوق الإنتاج الدرامي، فإن هناك مؤثرات إضافية في العمل التلفزيوني في البلدان العربية، حيث إن أصحاب القنوات التلفزيونية الخاصة هم رجال أعمال وأصحاب رؤوس أموال، والهاجس الأساس لديهم هو عملية الربح، لذلك يلجأ بعض المنتجين والمخرجين إلى تقديم أعمال تتناسب مع ما يطلبه هؤلاء، بل أحياناً هناك أعمال تكتب حسب الطلب، أي حسب الأهواء والمواصفات الرائجة.
وباستعراض الموضوعات والأفكار المطروحة في الأعمال الدرامية الرمضانية، نجد أنها تتكرر في كل عام، مع وجود اختلافات طفيفة، وتتسم الحوارات بين مختلف شخصيات الأعمال، الرئيسة منها والثانوية، بالسطحية الشديدة، وتتأرجح بين المثالية المفرطة والشر الممزوج بالكراهية، وذلك على الرغم من كون بعضها ينتمي إلى الفئات الوسطى المتعلمة، أو ذات تأثير ونفوذ اجتماعيين في أوساطها، إلى جانب أن معظمها يقدم صورة مثالية عن المكان وتعامل الناس مع بعضهم، وبشكل يشيع الرضا والسكينة في الشارع، مع غلبة الحشو والتطويل المتعمد كي يصل العمل إلى 30 حلقة على الأقل، الأمر الذي يسهم في ضياع الأفكار والرسائل، فضلاً عن الأخطاء الفنية والتباين في قدرات الممثلين، وعيوب السيناريو وضعف المعالجات الدرامية في معظم الأعمال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي