طريق الحرير الجديد
في مقال سابق تطرقت فيه إلى الجدل الدائر حول التحول الكبير في القوى الاقتصادية العالمية، وأشرت فيه إلى كتاب نشر أخيرا بعنوان (عدم القدرة على التحكم) لكبير الاقتصاديين في بنك إتش إس بي سي ستيفن كينج يدور حول هذا الموضوع ويدعم هذه النظرية ويراهن على أن الاقتصادات الناشئة ستلعب دوراً كبيراً جداً في توجيه مسار الاقتصاد العالمي. الدكتور محمد العريان الرئيس التنفيذي لشركة بيمكو للاستثمارات، وعمل سابقاً في صندوق النقد الدولي، كما كان مسؤولاً عن إدارة محفظة الاستثمار لأوقاف جامعة هارفاد أكد أيضاً هذه النظرية في كتابه الذي صدر في عام 2008م بعنوان (عندما تضطرب الأسواق) وتتلخص نظرته في الآتي:
أولاً: الاستهلاك في الولايات المتحدة تجاوز بشكل كبير القدرات المادية لها، وأن ذلك لم يحدث إلا باعتمادها على الدول الأخرى التي تقايضها الاستهلاك بالديون السيادية.
ثانياً: هناك ازدياد في الاعتماد على الاستهلاك المحلي لتوليد النمو في الاقتصادات الناشئة، وهذا بدوره سيقلل من فرص الاستهلاك للمواطن الأمريكي بسبب زيادة الضغوط التضخمية في الأجور في الاقتصادات الناشئة.
ثالثاً: إذا استمر الوضع على ما هو عليه بازدياد الاستهلاك المحلي والاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الناشئة، ستقل جاذبية الديون السيادية الأمريكية بشكل كبير، وهذا سيؤدي بالطبع إلى زيادة أسعار الفائدة بشكل كبير.
رابعاً: هناك انخفاض كبير في جاذبية الأصول الأمريكية خصوصاً أصول الملكية كأسهم الشركات، حيث تحقق أسواق الملكية في الاقتصادات الناشئة نمواً أكبر بكثير مما تحققه الأسواق الأمريكية.
بالطبع هذه المظاهر تدلل على تحول في القوى الاقتصادية إلى الشرق، وفي الوقت نفسه تراجع في المستقبل في قوة التأثير الاقتصادي الأمريكي. البعض قد لا يحبذ سماع مثل ذلك ويعتقد أنه من قبيل النظرة التشاؤمية، ولكن الحقائق تدلل على ذلك. التحول بالطبع لن يأتي بين يوم وليلة ولكنه سيكون تدريجيا. بيتر بيرنستين اقتصادي مخضرم وأحد الممارسين السابقين في الأسواق المالية ومؤلف أفضل كتاب يؤرخ لمفهوم الخطر (تاريخ الخطر) ،الذي توفي العام الماضي، أجاب عن سؤال حول ما إذا كان قلقاً من زيادة الاعتماد على الاستهلاك وتفاقم الديون الأمريكية قائلاً: إن التاريخ الاقتصادي يؤكد أن الاقتراض بشكل كبير هو أساس الكوارث الاقتصادية.
مقال رائع لكل من سايمون كينيدي وماثيو بريستو وشاميم آدم تطرق لهذا الموضوع في بلوومبيرج الأسبوع الماضي واقتبست منه عنوان هذا المقال (طريق الحرير الجديد). المقال يذكر عدداً من الحقائق المتعلقة بهذا التحول نحو الاقتصادات الناشئة، ويدعم ذلك بآراء ستيفين كينج الواردة في الكتاب الذي أشرت إليه، وآراء جيم أونيل كبي الاقتصاديين في جولدمان ساكس ومبتدع مصطلح الـ BRICs، فماذا يقول جيم أونيل؟ يقول جيم أونيل (إن الفرص التي تتيحها التجارة التبادلية بين الاقتصادات الناشئة كبيرة جداً، وهو ما يجعل من الصعب التفكير في ركود اقتصادي عالمي مستدام) – حسب رأيه، بما يعني أن هذه الدول ستحمل على عاتقها انتشال الاقتصاد العالمي من أزمة الركود الاقتصادي، وهو ما حدث فعلاً، حيث تقود الاقتصادات الناشئة النمو الاقتصادي العالمي.
إليكم الحقائق التي تدعم هذه النظرية، ويتبقى عليكم الحكم في شأنها:
أولاً: تستحوذ اقتصادات الـ BRICs وهي كل من: الصين، الهند، البرازيل، وروسيا، على ما نسبته 13 في المائة من حجم التجارة العالمية، ونصف النمو الاقتصادي العالمي منذ عام 2007م، ويتوقع أن تنمو هذا العام بمعدل 9 في المائة مقارنة بمعدل 2.6 في المائة في الدول المتقدمة.
ثانياً: ارتفاع مساهمة دول الاقتصادات الناشئة في الاستهلاك العالمي بسبب الاعتماد والتجارة المتبادلة فيما بينها، حيث تسهم بنسبة 30 في المائة من الاستهلاك العالمي، وهي تعادل نسبة الولايات المتحدة في هذا الاستهلاك.
ثالثاً: ارتفاع نسبة عقود التجارة بعملات غير الدولار، وهو ما يعكس تزايد التجارة بشكل كبير فيما بينها، وهذا حسب ما يشير له جيرمي بوث رئيس الأبحاث في مؤسسة أشمور للاستثمارات التي تدير استثمارات تقدر بـ 33 مليار دولار في الأسواق الناشئة.
رابعاً: أسهم النمو في الأسواق الناشئة في دعم أسعار السلع بشكل كبير خلال العامين الأخيرين، خصوصاً أسعار النفط التي تراجعت إلى مستوى 32 دولارا ثم عاودت الارتفاع مرة أخرى بسبب دعم الطلب من هذه الأسواق.
خامساً: تقدر منظمة التجارة العالمية نمو التجارة بين الأسواق الناشئة بمعدل 18 في المائة سنوياً بين عامي 2000 و2008، وهو معدل أسرع بكثير من نموها بين الأسواق الناشئة والمتقدمة، ما يعكس اعتمادا تبادلياً متزايداً بين هذه الأسواق.
سادساً: انعكست زيادة التجارة التبادلية بين هذه الأسواق على مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول: حيث تسهم الصادرات إلى الأسواق الناشئة بما نسبته 9.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2008م مقارنة بـ 2 في المائة عام 1985م، وما نسبته 7.3 في المائة مقارنة بـ 1.5 في المائة للأعوام نفسها في الهند، و6.3 في المائة مقارنة بـ 1.5 في المائة في البرازيل.
وأخيراً: العلاقة التجارية بين الصين والهند من جهة والشرق الأوسط من جهة أخرى، وصفها بين سيمبفيندير في كتابه (طريق الحرير الجديد) بأنها تتزايد عاماً بعد آخر، حيث يحول العالم العربي تجارته وعلاقاته الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، بطريقة تعيد الذاكرة إلى الوراء عندما لعب طريق الحرير دوراً كبيراً في ربط أوصال التجارة العالمية بين الصين ووسط آسيا وجنوب أوروبا وشمال إفريقيا.
هذه الحقائق والمؤشرات تدل على أن هناك تحولا كبيرا في القوى الاقتصادية على الأقل خلال السنوات العشر أو العشرين المقبلة من الغرب الذي يعاني الشيخوخة سواءً على المستوى الفردي أو على مستوى الاقتصاد ككل، وذلك لمصلحة القوى الصاعدة في الأسواق الناشئة. هذا لا يعني أن هناك انفصالا كاملا Decoupling بين ما يحدث في الغرب والشرق، ولكن سيكون هناك دور متزايد للأسواق الناشئة من خلال زيادة التبادل التجاري فيما بينها، وهذا سيجعل لها دوراً أكبر في صناعة القرار الاقتصادي العالمي، وبالطبع على حساب القوة الاقتصادية للغرب.