رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الضياع والتفتيت العربي.. وصفتان خارجيتان خارج الرحم الاقتصادي

وابتعدت تلك المشاريع والوصفات عن دعم التنمية وتحسين الأداء الاقتصادي، بما ينعكس إيجابا على شعوب هذه البلدان، وخاصة الفئات الفقيرة والمهمشة والضعيفة، كونها صدرت عن الفئة المتحكمة في القرار الأمريكي في عهد الإدارة السابقة، وكانت تمثل نخبة تعيش في رخاء، وتحمل توجهات إيديولوجية تغييرية، ترى العالم من خلال معياريتها الضيقة، ولا تحتمل تعدد التوجهات والثقافات، وقد اعتقدت أن المشاريع والخطط التي أطلقتها ستتحول إلى حقائق على الأرض عن طريق التلويح بالقوة واستخدامها.

الضياع والتفتيت
السمة الغالبة لمشاريع التغيير، التي رفعت شعار ''نشر الديمقراطية'' وسواه، هي سمة توصيفية، تطرح المقدمات من دون ربطها بالنتائج، ومن دون النظر إلى مجمل المسببات فيما آلت إليه الأمور في الامتداد الجيوسياسي والاجتماعي الواسع للبلدان العربية. ربما اقتضى التوجه الخفي لها الإبقاء على هلامية الطرح والتوصيف، طالما أن الهدف هو تغيير تركيبة هذه البلدان، ولو بالقوة، من خلال سياسة هجومية تسعى إلى توكيل القوة العسكرية المهمة، والتي عملت في المثال الأفغاني والعراقي، على تفتيت البلاد بعد تدميرها وخراب الدولة، والنتيجة هي ضياع العراق تحت اسم العراق الجديد، الذي رجع إلى الوراء عشرات السنين وربما مئات السنين، وحظي بديمقراطية شكلانية، يتقاذفها العنف، وتسرح فيها الطائفيات والمذهبيات السياسية.
دخل العراق بعد الاحتلال في حال من الدمار والفوضى، وكانت الفوضى التي وصفت له، وحققها الغزو الأمريكي، ''خلاقة''، لكنها لم تخلق سوى الضياع والتفتيت، وبالتالي فإن الوصفات التي أعدت للبلدان العربية، كان هدفها التقسيم والتفتيت وخلق كيانات متصارعة، لا قاسم مشتركا بينها سوى الاقتتال المذهبي والطائفي والإثني، والحصول على المكاسب الضيقة على حساب وحدة الشعب والأرض.
لقد نُظر إلى المنطقة العربية بوصفها كتلة هلامية غير محددة تماما، الأمر الذي طبع مشاريع الدمقرطة الخارجية بسمة عمومية اختزالية، تطوي تحتها وجود اختلافات كثيرة بين عشرات الأنظمة في الشرق الأوسط ''الكبير''، وتطوي جميع المشكلات والأزمات والاختلافات والفروق في المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي نماذج السلطة وأدوات الحكم، كما في أحوال ووسائل العيش، الأمر الذي عنى أن يفعل الاستسهال فعله في جمع هذا العدد من الدول والشعوب تحت اسم واحد. إلا أن القوى المهيمنة في العالم كانت تحاول خلق مفهوم واسع للتعبير عن نزوعها وتوجهاتها في السيطرة والهيمنة، إذ يكفي إيجاد فضاء اعتباطي لجملة بلدان كي يتم إخضاعها لسلطتها، عن طريق التدخل في شؤونها الداخلية، وإعادة صياغة تركيبتها بما يتفق والمصالح الاستراتيجية للقوى المسيطرة، قوى المال والأعمال والاتجار.
وكانت المنطقة العربية، ومعها الشرق الأوسط ''الكبير''، ضحية السياسات الاستعمارية، ثم تحولت إلى ضحية جديدة لصراع المصالح والنفوذ بين القوى العظمى خلال مرحلة الحرب الباردة. وقد حولتها تلك السياسات إلى كيانات ضعيفة تدفع أغلى الأثمان على التسلح والعسكرة، خصوصا بعد خلق الكيان الصهيوني، وما زاد الطين بلة أنها ابتليت بأنظمة شمولية مدعومة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الأوروبيين أو من طرف خصومها القدامى، فاستحالت إلى كيانات تعج بالأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية، وجرت عمليات حثيثة لإفشال خطط وبرامج التنمية الوطنية، والإبقاء على كياناتها، بوصفها مصدرا للخامات والمواد الأولية، وكأسواق لتصريف منتجاتها، ومحاصرة تطور مؤسسات المجتمع المدني، ومحاربة قواه الحية، والإبقاء على تبعية دول المنطقة للهيمنة والسيطرة.
وقد وجد المحافظون من اليمين الأمريكي والأوروبي، الجدد منهم والقدامى، ضالتهم في مقولة نشر ''الديمقراطية'' في هذه الكيانات، تحقيقا لنزوع مغلف بدعوة الإيديولوجية، وتسويغاً لنزعة راديكالية في السيطرة، واستندوا إلى النقص في الحرية، الذي تعانيه البلدان العربية، وتغاضوا عن النواقص الأخرى، في الاستقلالية والتنمية والعلم والمعرفة.
وجرى التركيز الإعلامي على مختلف النواقص عبر انتقائية مغرضة ومجحفة، حيث تمّ توظفيهما للتأكيد على قصور العرب ومخالفتهم لروح العصر، وبالتالي تأكيد حاجتهم إلى وصاية مطلقة، تبدّل جذرياً أنماط حياتهم وسبل معيشتهم وسلوكهم، وصولاً إلى تبديل علاقاتهم بالحكم وما يستتبعها من علاقات الحاكم بالمحكوم، لذلك لم يجر النظر في أثر العوامل الخارجية، ودور سياسات الهيمنة والتبعية في إحباط أي تطور وتنمية كانت تحلم بهما المنطقة العربية، أي أغفل نقصاً رئيسياً، يتمثل في النقص في السيطرة على القرار السياسي، الناجم عن النقص في الاستقلال الوطني لمعظم الدول، وما يستتبعه من غلبة سياسات التبعية للدول الكبرى، التي تفرض هيمنتها على القرار السياسي والاقتصادي في كل بلدان الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، التي لم تأخذ المشاريع الخارجية دورها في عدم استقرار وتدهور أوضاع المنطقة العربية.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية السابقة أن تنصّب نفسها قيّمة على الديمقراطية، وجعلت من أنظمتها السياسية شرطياً عالمياً، يحرص على تنفيذ مبادئ الديمقراطية، لكنها كانت تخفي أهدافها الحقيقة من وراء ذلك، مع العلم أن الديمقراطية قيمة إنسانية وسياسية، وهي وليدة الفكر والاجتماع الإنسانيين، وليست بحاجة إلى من يصدرها إلى الآخرين، أو يستوردها منهم، فهي ليست سلعة للبيع.
وقد أظهرت الأزمة المالية العالمية أن من نصبوا أنفسهم حماة الديمقراطية، كانوا يتلاعبون بالاقتصاد العالمي، وراحوا يلعبون في متاهات المضاربات المالية والمكاسب غير الشرعية، وكادت أعمالهم أن تودي بالاقتصاد الأمريكي برمته، ومعه الاقتصاد العالمي.
واليوم، يجد المطالبين بالديمقراطية في بلدان العربية أنفسهم خاسرين، لأن دعواتهم ومطالباتهم بالتغيير باتت تثير حفيظة الأنظمة العربية، كونها وجدت الذريعة التي تلصقها بالمشاريع والمخططات الأجنبية، وذلك بعد محاولات استثمار الدعوة إلى نشر الديمقراطية بغية تحقيق المصالح الاستراتيجية لقوى النفوذ في عالم اليوم. لكن ذلك لن يعفي الأنظمة من استحقاق التحول السلمي التدريجي نحو الديمقراطية. والديمقراطيون العرب لم ينتظروا فشل المشاريع والوصفات الأجنبية، كي يستمروا في المطالبة بالتغيير الديمقراطي السلمي، وهم يعون أن محاولات ومساعي القوى الخارجية تشكل عائقاً أكثر من كونها عنصر دفع، ومع معرفتهم أن التسلط والشمولية الداخليين هو أساس العلّة، إلا أنهم لن يقبلوا دعوة ''نشر الديمقراطية'' لكي تكون عنصر تحرر داخلي وتبعية خارجية في الوقت نفسه، فضلاً عن أن البلدان العربية بحاجة إلى ربط الديمقراطية بالتنمية على مختلف المستويات، وخصوصاً على المستوى الإنساني، وبما يحقق أفضل السبل نحو بلوغ العدالة الاجتماعية.

التنمية والديمقراطية
تثير علاقة التنمية بالديمقراطية جدلاً واسعاً في الفكر السياسي العالمي، وفي الاقتصاد السياسي أيضاً، فالنقاش حول حيثيات وطبيعة العلاقة بينهما لم يحسم بعد في أوساط المفكرين والباحثين، وكذلك لم يحسم النقاش حول علاقة التنمية بالاستبداد والأنظمة الشمولية. ويمكن الاستنتاج بوجود علاقة سببية بين التنمية والديمقراطية بالاستناد إلى تجارب بعض البلدان في العالم، حيث يمكن القول إن أدبيات الاقتصاد السياسي تفيد بأن التنمية يمكنها أن تقود إلى الديموقراطية، فالبلدان التي نجحت في تطبيق الديمقراطية حقّقت في معظم السنوات معدلات نمو أعلى من تلك البلدان التي أخفقت في تطبيقها، وحققت كذلك معدلات نمو أعلى من متوسط النمو في البلدان التي لم تحاول تسير في الطريق الديمقراطي، وبالتالي، فإن البلدان الديمقراطية أفضل أداءً، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من البلدان ذات الأنظمة التسلطية والشمولية، وتسهم في بناء دول أكثر استقراراً مقارنة بالأنظمة غير الديمقراطية، وتقدم تركيا اليوم المثال على بلد إسلامي سلك الطريق الديمقراطي وحقق نجاحاً في التنمية، وبات نموذجاً يحتذى.
من جهة أخرى، هناك العديد من الأنظمة غير الديمقراطية التي حققت نجاحات في التنمية، والصين خير مثال على ذلك. وتقدم تجارب الدول الآسيوية، كتايوان وكوريا الجنوبية واندونيسيا، أمثلة على أنظمة فاسدة وتسلطية، تمكنت من السير في طريق التنمية، ثم تحولت إلى بلدان ديمقراطية، ومع ذلك فإن تبنّي الديموقراطية والحريات السياسية أمر مهم جداً للتنمية الاقتصادية والإنسانية، بوصفهما قيمتين مهمتين في حدّ ذاتهما.
ويمكن النظر إلى التنمية بوصفها عملية توسع في الحريات الحقيقية، التي يتمتع بها أفراد المجتمع، ذلك أن التنمية، في جوهرها، هي إزالة مصادر افتقاد الحرية مثل الفقر، والاستبداد، وشح الفرص الاقتصادية، والحرمان الاجتماعي، والغلو والتطرف، وإهمال المرافق والمؤسسات العامة. ويقترن نقص الحريات بشكل مباشر بالفقر الاقتصادي، لأن الأخير يسلب الناس حقهم في الحرية، وفي الحصول على حاجاتهم الأساسية، ويكون افتقاد الحريات، في أحيان أخرى، مقروناً بضعف الدولة، وضعف إمكاناتها، وافتقاد المرافق العامة والرعاية الاجتماعية.
وتشير أغلب دراسات الاقتصاد السياسي الحديث إلى أن التنمية الاقتصادية، تعتبر المحرك أساسي لفتح مسار التحول الديمقراطي في الأنظمة الشمولية، فيما يفضي استمرار تعثر التنمية إلى استمرار التسلط وانتشار وتفشي ظواهر الفساد والبطالة وانتهاك حقوق الوطن والمواطن، وبالتالي فإن طريق الديمقراطية تتعمق مع السير في طريق النمو الاقتصادي، المترافق بتطور العلوم والتكنولوجيا، وازدياد قوة الدولة الاقتصادية، الذي ينعكس إيجاباً على مكانة الدولة، إقليمياً ودولياً، وعلى المجتمع المدني وتقدمه.
وإذا تفحصنا المثال الصيني في التنمية، نجد أن الصين، اليوم، تختلف عن الصين في عهد الزعيم ماو تسي تونك، كونها تخلت عن أهم مبادئ الشيوعية والاقتصاد الاشتراكي مبكراً، وفتحت أبوابها للمستثمرين، حيث يصل حجم الاستثمارات في الاقتصاد الصيني إلى نحو ثلثي الحجم الكلي للاستثمارات فيها، وجرى ذلك في فترة الـ 25 سنة الأخيرة. ولم يتمسك النظام الصيني بمقولات ونظريات ما كان يعرف بالمجموعة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي السابق، التي أفضت إلى انهيار وتفكك دول المجموعة الاشتراكية ومعها دول الاتحاد السوفييتي.

التجارب العربية
تبيّن تجارب البلدان العربية أنها حققت تقدماً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال الوطني، وعرف أغلبها تجارب ديمقراطية وانفتاحا سياسيا داخليا خلال لحظات عديدة، لكن الديمقراطية لم تتجذر فيها مع الأسف، حيث أنهت الانقلابات العسكرية كل تعددية وممارسة ديمقراطية، وطرحت النخب العسكرية التي وصلت إلى الحكم بالقوة شعارات فارغة من محتواها حول الديمقراطية والتنمية والتقدم. وبعد عقود من حكمها لبلدان عربية عديدة، لم تتمكن الأنظمة السياسية من تحقيق التنمية المطلوبة، ولم تسر في طريق التحول الديمقراطي، بل احتكرت الثروة والسلطة، وجعلت الدولة خاضعة لمصالح فئات مقرّبة منها، مع تزايد الفساد والمحاباة والمنافع الفئوية الضيقة، وترتب على ذلك تشوهات وإخفاقات في نظام الحكم، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي الإدارة والاقتصاد الوطني ومختلف مفاصل الدولة.
ومنذ عقد السبعينيات من القرن العشرين الماضي، سيطر الريع النفطي على اقتصادات المنطقة العربية، وعلى مجتمعاتها، حتى على تلك الدول التي لا تملك نفطاً، حيث رسّخ التأثير السياسي للثروة النفطية القيود المفروضة بالأصل على الممارسة الديموقراطية في البلدان غير النفطية، إلى جانب تأثير استمرار النزاعات الإقليمية، وبشكل شكل خاص النزاع العربي - الإسرائيلي. وكان لهذين العاملين الأثر الكبير في تعثر المسار الديمقراطي والتنمية، حيث جرت علميات مقايضة البحبوحة المالية بالمشاركة والحقوق السياسية، وأدت الحروب مع العدو الإسرائيلي، والاستغلال السيئ لشعار ''لا صوت يعلو فوق صوت المعركة'' إضافة إلى النزاعات الأهلية، إلى إسكات جميع الأصوات المطالبة بالانفتاح الديمقراطي والمشاركة السياسية. والمفارق في الأمر أن النزاعات والحروب في نهاية المطاف، ولأسباب مختلفة، أفضت إلى عملية دمقرطة لاحقة في مناطق أخرى من العالم، لكنها لم تحقّق ذلك في العالم العربي.
ويشير تقرير ''تحديات التنمية العربية'' الذي صدر أخيراً إلى أرقام خطيرة، تتعلق بمعدلات الفقر والبطالة والأمية وغيرها، في البلدان العربية، حيث يعيش نحو 140 مليون إنسان عربي تحت خط الفقر. والأسوأ هو أن معدلات الفقر فيها لم تشهد أي انخفاض خلال السنوات العشرين الماضية، بل إنها ارتفعت في بعض البلدان. أما معدلات البطالة، فتضرب الرقم القياسي بين الشباب، وهي أعلى من الرقم العالمي بنسبة 77.8 في المائة. ووفق التقرير تحتاج الدول العربية إلى توفير 51 مليون فرصة عمل جديدة، خلال السنوات العشر القادمة؛ كي يتمّ توفير المرونة المطلوبة في أسواق العمل العربية. ولا تعني البطالة، خصوصاً بالنسبة إلى الشباب، ليست مجرد نقص في الدخل، يمكن أن تعوضه الدولة مقابل كلفة مالية، بل هي في ذاتها عبء خطير جداً، كونها تشكل أيضاً مصدر إضعاف بعيد المدى للحرية والمبادرة والمهارات الفردية، ولها آثار عدة، من بينها: الإسهام في الاستبعاد الاجتماعي للشباب، وفقدان الاعتماد على الذات والثقة بالنفس، إضافة إلى أضرار تصيب الروح والجسد.
خلاصة القول هي أن الديمقراطية والتنمية هما من الإشكاليات الجوهرية، والارتباط بينهما ضروري لنهوض بلداننا، ذلك أن الديمقراطية تلعب الدور الرئيس في التنمية الإنسانية، بمختلف أبعادها. وقد بيّنت تجارب البلدان الناهضة على جدل العلاقة بين الديمقراطية والتنمية. لكن، الملاحظ في تجارب الدول العربية، أن معظمها يفتقر إلى الممارسة الديمقراطية في السياسة والحكم، ولم تحقق، بالمقابل، التنمية المطلوبة، مع أنها - نظرياً - وضعت في سلم أولوياتها التنمية والتطور، لكنها لم تتبنَ مساراً واضحاً للتنمية الإنسانية، ووضعت عراقيل عديدة في طريق التحول الديمقراطي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي