بين الجدل والحوار تاهت الموضوعية
نحن أمة وسطية, والوسطية تعني أن كل شيء حلال ما لم يثبت أن له نتائج ضارة فيحرم, فلا يمكن مثلا الحكم على الفضائيات التلفازية بأنها حرام, ما يبث فيها هو ما يمكن أن يكون حراما أو حلالا, هذا تعريفي للوسطية في فهمي المتواضع.
تموج ساحتنا الفكرية بالجدال حول عدد من القضايا التي شغلنا وانشغلنا بها في الآونة الأخيرة, وهي قضايا لها صلة بحياتنا الآنية من جهة, ومن جهة أخرى بحكم الدين, ومع أن الحكم فيها من الجانب الديني ـ حسب قاعدة الوسطية ـ يجب أن ينصب على ما فيها من إيجابية حلال وسلبية حرام, وليست في تحريمهما بالمطلق, ولا تحليلهما أيضا بالعموم, إلا أن الملاحظ أن كلا الطرفين اللذين يتجاذبان حولهما وكل منهما على نقيض الآخر, حوّلا بعض هذه القضايا إلى مشكلة مستعصية مؤرقة لم نتبين فيها الخيط الأبيض من الأسود, وحدة الجدل الدائر حولها بين الفرقاء وليس النقاش الموضوعي, هو ما دفع طرفا إلى التشدد في الرفض, واندفاع الطرف الآخر للإصرار على الإطلاق.
الموقف الذي يعبر عن الجانب الديني, فيه جانب مفهوم ومقدر على اعتبار أنه ينظر إلى النتائج السلبية لكثير من هذه القضايا, خاصة ما له علاقة بالمرأة كقيادة السيارة والاختلاط, فلم أسمع لشيخ معتبر وله مكانة يحرمهما مثلا لذاتهما, بل يتحوط مما ستفرزانه من سلبيات تدخل مجتمعنا المسلم المحافظ في انفتاح غير محمود العواقب, إلا أن هذا الموقف قصر في عرض وجهة النظر المستندة إلى تعاليم الدين, وجر جرا ليتخذ مواقف توصف بالمتشددة سدا للذرائع ـ كما يقال.
أما الجانب الآخر, الذي ما زالت تسميته غامضة وغير واضحة, فهو يسمى تارة العلماني وتارة أخرى التنويري وثالثة التغريبي, عالج هذه القضايا باندفاعية لا تأخذ في اعتبارها حدود الحلال والحرام, وهذا خطأ ما كان يجب الوقوع فيه إن أريد فعلا مناقشة الأمر بعقلانية أكثر منها انفتاحية مطلقة, فهناك اتفاق عام على أن بعضا من هذه القضايا التي تطرح نفسها وبقوة على مجتمعنا يمكن أن تكون ضرورة في وقتنا الراهن في حالات عديدة, وبعضها الآخر بات واقعا لا يمكن تجاهله بحكم الضرورات أيضا, لكن المسألة ليست هنا, بل في دعوة هذا الطرف الآخر, العلماني أو التنويري أو التغريبي, ومطالبه غير المشروطة بضرورة الواقع وخصوصية هذه البلاد ـ التي يتندر عليها البعض, مع أنها حقيقة يجب أن نعتز بها ونفخر لا أن نهزأ بها ـ بإطلاق ممارسات جديدة على مجتمعنا دون ضوابط تتجاوز ما فيهما من حرمة وحلال, ويستندون في هذا الرأي إلى أن مجتمعنا ناضج وأفراده من نساء ورجال واعون ومدركون ما يجب وما لا يجب, ولا حاجة إليه في وصاية من أحد, بل إن بعض هذا البعض طالب بترك الأمور تجري دون ضوابط وتترك الممارسة الجديدة التي توصف من قبل التيار الديني والوطني بأنها ثقافة تغريبية, تصحح الأخطاء وتضبط الإيقاع بطبيعة الأمور, ألسنا مجتمعا إسلاميا مؤمنا ومحافظا, يقول آخر, إذن لنترك المرأة تقود السيارة, ويفتح باب الاختلاط على مصراعيه, ولنراهن على إيماننا وإسلامنا ومحافظتنا.
هذا الجدل الذي يمكن وصفه بالعقيم والمشحون بالتصادم والتصارع, قادنا إلى نتائج أفقدتنا أطر وأسس النقاش والحوار لقضايانا بهدوء وروية وموضوعية, واستعيض عن ذلك بإطلاق التهم والتوصيفات المستثيرة, فهذا يصف ذاك بالعلماني المرتهن لأجندة تغريبية, وذاك يتهم هذا بالظلامي والوصاية القهرية باسم الدين, وما بينهما ضاعت الموضوعية واختلط الحق بالباطل.
من واقع ما تموج به ساحتنا في السنوات الأخيرة وما تفرزه من جدلية سلبية هناك قاعدة علينا إدراكها لتصحيح المسار, وهي أن مناقشة الآخر لا تعني تسفيه الآراء والتندر والحكم السلبي المطلق عليها, وجودة الطرح لا تكون بحدة القول والتشبيه غير الموفق والقدرة على التهجم, بل في احترام جميع الآراء مع حق الاختلاف معها بموضوعية دونما احتكار للصواب الكامل على قاعدة الإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله: ''رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب''.
إن مناقشة الرأي الآخر بموضوعية ليس في إلغائه والتوهم بامتلاك الحقيقة, وجودة الطرح لا تكون بحدة القول والتشبيه غير الموفق, كما أن تناول القضايا الخلافية يصبح مبتذلا إن حول النقاش إلى ''تريقة'' وتنكيت على الآخر, وجعلها مادة للكتابة الساخرة, فإذا سرنا في نقاش قضايانا المهمة والحساسة بهذا الأسلوب, فلن نصل إلى نتائج غير توسيع الهوة وشق الصف والتفاخر بأينا أطول لسانا وأشد حدة وأكثرنا سخرية, والتباهي بكثرة القراءة والتعليقات, وهو ما يسعى إليه البعض على حساب الموضوعية ومسؤولية الكلمة وأمانتها. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى ضبط نقاشاتنا وحوارنا وحصره في صلب القضايا والموضوعات, وأن نستبدل هذا الجدل بحوار حقيقي وموضوعي لا يلغي الآخر ويسفه آراءه, ويعلي من شأن رأيه هو على أنه الحقيقة وحده وما عداه خطأ وتخلف وتزمت, هذا المفهوم هو ما يحتاج إليه كثير ممن يخوضون في هذه المسائل الخلافية المثارة اليوم, فالبعض وجد فيها رواجا وشهرة ترضي نرجسيته على حساب القيمة الموضوعية.