قراءة بين السطور لتصريح خادم الحرمين

التصريح الصريح الذي تفضل به خادم الحرمين الشريفين خلال لقائه الأخير أبناءه الطلبة المبتعثين في أمريكا حول الاقتصاد في إنتاج الثروة النفطية من أجل مستقبل الأجيال القادمة، وعبَّر عنه بتجميد التنقيب عن الحقول النفطية الجديدة، كان نابعا من القلب، فهو كقائد يُقدِّر ما لأولادنا وأحفادنا من حق ونصيب من هذه الثروة الناضبة، التي إن لم نحسن استغلالها والحفاظ عليها فستطير من بين أيدينا خلال زمن قياسي. ويجب علينا أن نتمعن في مضمون التصريح ونحاول أن نقرأ ما بين السطور لنستطلع ما يقصده - حفظه الله - بهذا التوجيه الكريم. فظاهر التصريح يعني أمره بإيقاف البحث والتنقيب عن حقول جديدة, إضافة إلى ما تم اكتشافه حتى وقتنا الحاضر، وتأجيل ذلك إلى وقت لاحق بعد وقت طويل عند ما تقترب الحقول الحالية من النضوب. وهذه استراتيجية لا غبار عليها إذا تم فهم المقصد الحقيقي والدقيق من التوجيهات السامية. ولو اكتفينا بالمعنى الظاهري للتصريح من دون أن نتبع ذلك بإجراءات أخرى تخدم الغرض نفسه، كاتباع سياسة إنتاجية معينة تخدم قبل كل شيء مصالحنا القومية، فلربما أخطأنا الهدف السامي له، حفظه الله. ومجرد عملية التنقيب عن حقول نفطية جديدة ربما لا تفيدنا في شيء، إذ ليس كل تنقيب ينتهي بوجود حقل نفط. فمن الممكن أن نقضي سنوات طويلة من البحث والاستكشاف ونصرف الأموال الطائلة دون أن نحرز نجاحاً ملموساً يضمن لنا وجود كميات تجارية من النفط أو الغاز، وهذا أمر معروف لدى الجيولوجيين ومهندسي البترول. ولا نعتقد أن مثل هذه الاحتمالات تخفى على خادم الحرمين الشريفين، ولذلك نكاد نجزم أن ما عناه تصريحه هو الحفاظ على الثروة النفطية القابلة للنضوب بأي طريقة كانت وعدم الإسراف في إنتاجها فوق مستوى متطلبات التنمية الاقتصادية للمملكة. وإذا عدنا بالذاكرة إلى عدة أشهر مضت، تذكرنا توجيهاته السامية بإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، وهي دعوة إلى الشروع في تبني استخدام مصادر الطاقة البديلة، من أجل المحافظة على المركز المتميز للمملكة كمصدر للطاقة النفطية والمتجددة, وكل ذلك يعكس اهتمام خادم الحرمين بمستقبل هذه البلاد الطيبة وأجيالها القادمة. الاستهلاك الفاحش للنفط، عالميا ومحليا، يُهدد بنزول كارثة اقتصادية مُدمرة علينا وعلى المجتمع الدولي، إذا لم نتنبه لخطورة وضعنا الحالي وطريقة حياتنا المبنية على الإسراف والتبذير والعيش في رفاهية مُزيفة تعتمد على مصدر ناضب ونحن لا نملك من حطام الدنيا غيره إلا رحمة العزيز الرزاق. ومع ذلك، فالكل غافل عن مصيرنا ومصير أجيالنا القادمة إلا هذا الإنسان الطيب، أطال الله في عمره على عمل صالح، خادم الحرمين الشريفين، أعانه الله ووفق البطانة الصالحة التي تُعينه على أداء مسؤولياته العظيمة وفهم مقاصد توجيهاته الكريمة وتنفيذها. إنه، حفظه الله، يقول لنا بصريح العبارة، اقتصدوا في أمور حياتكم واعملوا على إيجاد السبل التي تضمن لأجيالنا مصادر الرزق الكريم والعيشة الهنيئة، ما دام لديكم الفائض المادي ومُتسع من الوقت. ومتطلبات المعيشة العصرية تحتاج إلى مزيد من مصادر الطاقة التي هي شريان الحياة. فإذا نحن لم نحسن إدارة مواردنا، وهو ما نخشى أننا واقعون فيه، فسنجد أنفسنا بعد حين وقد فات الأوان ولا ينفعنا اعتمادنا الكلي على مصدر واحد له عُمر محدود. ولقد آن الأوان لنتخلى عن كبريائنا وتنطعنا وافتخارنا بأننا نمتلك أكبر احتياطي للنفط في العالم، فذلك لم يزدنا إلا اعتمادا شديدا على الآخرين لإدارة شؤون حياتنا ومقاسمتنا أرزاقنا التي كتبها الله لنا، إضافة إلى اهتمامنا غير المحدود بأمور الاقتصاد العالمي، على حساب مستقبل أجيالنا الذي أمرنا ولي أمرنا بألا ننساه ونحن في أوج العطاء النفطي. ولعل خصوصيتنا وتراثنا هما اللذان يسيطران على تصرفاتنا نحو الآخرين، فنؤثر على أنفسنا ولو كان بنا خصاصة. وسواء جاملنا المجتمع الدولي، العدو منهم والصديق، وأسرفنا في تلبية رغباتهم رغم الضرر الذي سيلحق بمصالحنا القومية، فسيأتي اليوم، وهو ليس ببعيد، الذي لا ينفع معه أي زيادة في الانتاج من جانبنا. أي أن العالم أجمعه على وشك أن يفقد فائض الإنتاج النفطي الحالي قبل أن تتوافر لديه مصادر الطاقة البديلة بقدر كاف تؤمِّن له ما سيفقده من المصادر النفطية بفعل قوانين النضوب التي تحكم إنتاج المواد الطبيعية القابلة للنضوب. وبما أن النتيجة واحدة في كلتا الحالتين، فمن الأفضل لنا أن نواجه الدول المستهلكة من الآن ونبين لهم مقدار الضرر الذي سيطول مستقبلنا ومستقبل أجيالنا إن نحن رفعنا مستوى إنتاجنا فوق متطلبات حياتنا وما تحتاج إليه بنيتنا التحتية. ونود أن نؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه سيكون في صالح الجميع، المُنتج والمستهلك، أن يشعر ويحس الجميع بقرب حدوث نقص في الإمدادات النفطية العالمية. وإن لم ندرك ذلك، فإن العاقبة ربما لا تكون سارة ولا مرضية بالنسبة لنا جميعا، ويأتي علينا اليوم الذي لا ينفع معه الندم. وهناك فئة قليلة من الطرفين، ولكن أصواتهم ليست عالية إلى المستوى المطلوب، يدركون كيفية ووضع مستقبل مصادر الطاقة ويتنبأون باحتمال حدوث أمور خطيرة تهدد سلامة وجودنا إن لم يضاعف المجتمع الدولي جهوده نحو بناء قاعدة قوية لمصادر الطاقة البديلة تستخدم جنبا إلى جنب مع المشتقات النفطية. ومن الواضح للجميع الآن أن المستهلِك والمُنتِج لم يعُدا يتحرَّجان عند الحديث عن الحاجة إلى وجود مصادر للطاقة المتجددة كما كانت عليه الحال منذ سنوات قليلة. وما عليهم اليوم إلا أن يسارعوا في تنفيذ مشاريع الطاقة غير النفطية، وعلى وجه الخصوص، الطاقة المتجددة من أجل أن تساعد على تخفيف الضغط الهائل على المصادر النفطية التي بدأ بعض حقولها يقترب من شبح النضوب. وإذا كان هناك عدم اتفاق بين المستهلكين والمنتجين على رؤية واحدة حول مستقبل الإمدادات النفطية، التي كانت منذ عشرات العقود ولا تزال تُسيِّر حياتنا وتغذي نمو اقتصادنا، فمرجعه بالدرجة الأولى إلى عدم الشفافية التي تنتهجها معظم الدول والشركات المنتجة، لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية. وهذه السياسة التي كانت سائدة منذ زمن طويل لا تخدم المصالح العامة للبشر كافة. صانع القرار في مجال مستقبل الطاقة سيبني تنبؤاته وقراراته على ما يصله من معلومات قد تكون خاطئة، إذا لم تكن المصادر تتحلى بالصدق والشفافية، وتكون النتيجة غير واقعية وربما مُضللة، بينما نحن نتحدث هنا عن مصير أمة ما. والذين يتحدثون اليوم عن الكميات الهائلة من النفط المُكتشف وغير المُكتشف والثابت وجوده والمحتمل، ويقولون لا حاجة لنا في الوقت الحاضر إلى البدائل، هم في أغلب الأحوال غير مُصيبين. ونحن نعلم أن أي بدائل جديدة لمصادر الطاقة سيستغرق تطويرها واستيعابها ومن ثم استخدامها سنوات طويلة، ناهيك عن المدة الزمنية التي ستستغرقها لبناء بنيتها التحتية وتكلفتها العالية، كونها تختلف عن طبيعة المشتقات النفطية التي تهيمن الآن حصرا على مصادر الطاقة. وليس في صالح المجتمع الدولي أن يُستنزف معظم الموجود من النفط في مجال توليد الطاقة، ومشتقاته تستخدم في كثير من الصناعات التحويلية لإنتاج أنواع لا تُحصى من المواد الاستهلاكية التي لا غنى لنا عنها وليس هناك ما يقوم مقامها من المواد الأولية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي