رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تركيا أردوغان.. المزاوجة بين العلمانية والحداثة الإسلامية

لم تحظَ تركيا بمثل هذا الاهتمام الذي تحظى به في أيامنا هذه، خصوصاً على المستويين الإقليمي والعربي، خلال مجمل تاريخها الحديث، حيث باتت محط كتابات ودراسات وأبحاث عديدة، بوصفها تشكل نموذجاً لدولة إسلامية ناهضة وناجحة، زاوجت بين النظام العلماني والحداثة الإسلامية، بالاستناد إلى مجتمع حيوي، واقتصاد ناهض، وسياسة خارجية جعلتها دولة محورية، حاضرة في جميع قضايا ومسائل منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، والمنطقة المحيطة بها بشكل عام. إلى جانب صعودها كقوة اقتصادية كبرى في المنطقة، حيث سجّل الناتج الإجمالي التركي ارتفاعاً كبيراً، خلال الأعوام القليلة الماضية، فبلغ نحو 750 مليار دولار في عام 2009، وصار الاقتصاد التركي الـ 16 في العالم وفقاً لبعض التقديرات الجديدة، والاقتصاد السادس في أوروبا.

## الحداثة الإسلامية

لم يلجأ الحزب الحاكم في تركيا إلى إقحام أو توظيف الدين في خدمة السياسة وشؤون المجتمع، على الرغم من تمسك المنتسبين إليه وأنصاره بقيم الدين الإسلامي، إنما اعتبروا، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر، أن ممارسة تلك القيم لا يخرج عن نطاق مبادئ المواطنة وقيم حقوق الإنسان، ولا يفترق عن ممارسة الديمقراطية ومختلف الأعراق والشرائع الدولية، بل يتكامل معها. والأبعد من ذلك احترموا تقاليد العلمانية التركية، مع اجتراح ما يمكن تسميته حداثة إسلامية، تنهض على الممارسة التي تقدم مثالاً لقيم الدين الإسلامي السمحة، سواء على المستوى الداخلي، وهو الأهم، أم على المستوى الخارجي، فكانت انطلاقة حزب العدالة والتنمية من الانتخابات البلدية، خصوصاً بلدية إسطنبول، التي انطلق منها نجم رجب طيب أردوغان، حيث قامت البلدية بتأمين مختلف الخدمات لأبناء هذه المدينة، المنقسمة بين قارتي آسيا وأوروبا، وبرهن المنتخبون لرئاسة البلديات من هذا الحزب لجميع الأتراك أنهم جاءوا لخدمة مصالحهم، من خلال محاربة الفساد والرشوة والجريمة، فاكتسبوا مصداقية لدى المواطن التركي، حتى لدى بعض أوساط النخبة العلمانية. ولم يرفع الحزب شعارات إسلامية صارخة، ولم يكفر أحداً، كما لم يدّع عصمة دينية أو حقا إلهياً، بل كان شديد التواضع والنزاهة، الأمر الذي جعل بعض المتشددين الإسلاميين في المجتمعات العربية ينظرون إليه بتوجس، ويشككون في مدى عمق المرجعية الإسلامية لديه، خصوصاً أنه عمل جاهداً كي لا تصطدم مبادئ الحزب وممارساته مع المبادئ الدستورية العلمانية، ثم انطلق حزب العدالة والتنمية من البلديات إلى انتخابات البرلمان، وفاز بانتخابات رئاسة الجمهورية التركية في عام 2002، وبالتالي فإن الحزب الحاكم جاء بواسطة أصوات قطاعات واسعة من المجتمع التركي، ومع ذلك لم ينفرد برؤية أيديولوجية، ولم يفرض توجهاته ومبادئه على الأتراك لمجرد أنه يراها صحيحة، وقد يكون ذلك سرّ نجاحه ووصوله إلى الحكم في تركيا، على الرغم من العقبات الدستورية التي وضعت أمامه.

وتمكن حزب العدالة والتنمية من تجسيد مفهوم الحداثة الإسلامية، التي تنهض على الموروث الإسلامي، كانتماء يجمع بين معظم الأتراك، وعلى الإيمان بقدرتهم على إدارة شؤون دنياهم وفق متطلبات القرن الـ 21، وليس وفق قرون خلت وانتهت، وبما يحقق مصالح المجتمع ومصالح الدولة التركية في عالم اليوم، ويحقق كذلك قيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة،، ويسهم في بناء الحضارة الإنسانية، من خلال تقوية الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، وإشادة مؤسساتها وأجهزتها، وتقوية المشاركة الشعبية والرأي العام، وإشراك قوى المجتمع في مسار التطور على مختلف المستويات، ولعل أهم ما يمكن تسجيله هو أن حق الاختلاف في الأفكار والآراء مصان في الدولة التركية، إلى جانب حرية الصحافة وحرية التعبير، ومختلف حريات المجتمع المدني ومؤسساته، الأمر الذي أفضى بالحداثة الإسلامية إلى التوافق والالتقاء مع تقاليد العلمانية التي تحترم تقاليد الدولة الجمهورية وتقاليد المجتمع التركي.

كل ذلك جعل من تركيا الدولة النموذج في العالم الإسلامي إلى جانب ماليزيا، وذلك بالافتراق عن إيران، حيث إن إيران في ظل رئاسة محمود أحمدي نجاد تعاني انقساما داخليا عميقا، إضافة إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية عديدة، ولها صبغة الدولة الدينية المغلقة، التي يحكمها الولي الفقيه، وتثير شكوك العالم وجيرانها حول دورها الإقليمي وغموض ملفها النووي المثير للجدل، في حين أن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان تقدم مثالاً مختلفاً، وتثير إعجاب قطاعات واسعة في البلدان العربية والعالم الإسلامي، كونها استفادت من إرثها الإسلامي، ومن الحداثة، وباتت منسجمة مع المنطقة والعالم، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وجغرافياً، ولم تهدم ما ورثته من تقاليد في الدولة التركية، بل صححته وبنت عليه، كي تشكل عامل حماية للاستقرار والأمن والتنمية.
ويمكن القول إن النجاح التركي نهض على المزج والمزاوجة بين الانتماء الديني والحضاري والممارسة العملية، انطلاقاً من فهم يرى أن الناس في حاجة إلى الانتماء الديني والحضاري الذي يضرب بجذوره في أعماق تاريخهم ونفوسهم، لكنهم في الوقت نفسه في حاجة إلى أن يعيشوا حياتهم الكريمة والحرّة، كما تعيش شعوب المجتمعات الأوروبية القريبة منهم، وبالتالي فهم يسعون إلى التقارب مع البلدان العربية والإسلامية، لكنهم لم يتخلوا عن التقارب أو الدخول في نادي الاتحاد الأوروبي، لذلك لم تتخل تركيا عن طموحها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل عملت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان على تحقيق الإصلاحات المطلوبة منها، فأنجزت إصلاحات كبيرة في ظرف أعوام قليلة تفوق ما أنجزته تركيا طوال 40 عاماً مضت، مثل إلغاء عقوبة الإعدام، وتغيير أنظمة السجون، بما فيها حماية السجناء من التعذيب، وتعزيز حرية التعبير، والشفافية، وإرساء دعائم دولة القانون من خلال إلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، والاعتراف بأولية التشريعات الدولية على حساب القوانين الوطنية في مجالات حقوق الإنسان، واعتمادها بمثابة المرجعية بالنسبة للمحاكم التركية. والأهم من ذلك تعزيز سلطة البرلمان، وقوانين المساواة، ومراقبة نفقات القوات المسلحة، وتقليص صلاحيات مجلس الأمن القومي. وتراجع تأثير الجيش التركي في إدارة السياسة الداخلية والخارجية، عبر تقليص سلطته في هذا المجال، وعليه تمكنت الدبلوماسية التركية من القيام بدور إيجابي في حل عديد من الأزمات والمشكلات، وبالتالي صعد نجم تركيا وصار لها دورها الإقليمي المؤثر.

## الدور الإقليمي

تتحرّك تركيا، إقليمياً، انطلاقاً من مصالحها الوطنية، الاقتصادية والأمنية والإقليمية، وطبعت المشاغل الأمنية لتركيا فيما يتعلّق بـ ''حزب العمّال الكردستاني'' سياستها الخارجية حيال سورية والعراق وإيران وبلدان أخرى في العالم، الأمر الذي أفضى إلى تعزيز شراكتها مع الولايات المتحدة وأوروبا بطرق عدّة، حسبما يقول إبراهيم كالين مستشار رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي.

ونال الدور الإقليمي لتركيا اعترافاً دولياً، جسدته سياسة خارجية جديدة، تتمتع بدينامية كبيرة، وتتسم بالمبادرة وليس برد الفعل، الأمر الذي يفترق مع ضيق أفق الأيديولوجيات والأحكام المسبقة وأزمات وعقد الماضي، ويتجسد في المبادرة والحضور المبكر والاستباقي لتركيا في كل أزمات ونزاعات المنطقة. وبلغ دور تركيا في المنطقة أوج قوته بعد الهجوم الإجرامي على ''أسطول الحرية''، الذي أودى بحياة تسعة أتراك، واعتبرته تركيا ''إرهاب دولة'' على لسان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان، وراحت تعمل على إنهاء حصار غزة وتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، إلى جانب سعيها إلى تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، ودخلت على خط الوساطة في الملف النووي الإيراني، بوصفه ملفاً رئيساً في أجندتها في الشرق الأوسط.

ومن خلال رصد حالة الحراك الإقليمي لتركيا، يمكن ملاحظة حجم القوة الناعمة التي تتبناها تركيا في إطار استراتيجياتها في السياسة الخارجية، التي أفضت إلى تصفير مشكلاتها مع دول الجوار، خصوصاً سعيها إلى إنهاء صراعها التاريخي مع أرمينيا، ونجاحها في عقد اتفاق معها، يعيد فتح الحدود والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وطاول الحراك التركي قيام مسؤولين أتراك بزيارة شمال العراق وجنوبه بصورة متواترة، والتنسيق التركي الرفيع المستوى مع إيران بخصوص الطاقة، إضافة إلى شروعها في تأسيس المجلس الأعلى للتنسيق الاستراتيجي مع اليونان، مثلما هي الحال مع سورية والعراق.

## العمق الاستراتيجي

يستند نجاح السياسة التركية إلى نظرية ''العمق الاستراتيجي''، التي وضعها وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو، أستاذ العلوم السياسية، الذي يعتبر أن موقع تركيا وتاريخها يجعلانها مستعدة للتحرك الإيجابي في الاتجاهات كافة، خصوصاً جوارها الجغرافي، للحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها، لذلك توجب إنهاء القطيعة التركية لمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها، التي استمرت عقوداً طويلة، وكانت تعيش تركيا خلالها حالة من الانطواء والعزلة داخل ''هضبة الأناضول''، وتتصرف كدولة هامشية أو طرفية في منظومة المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ومع مطلع القرن الـ 21 ومجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فيها، عاد الأتراك بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، خصوصاً بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا في المقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية.

واتبعت تركيا في استراتيجياتها، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، سياسة القوة الناعمة والتمدد شرقاً وجنوباً، وتمكنت من إبرام اتفاقيات ثنائية مع عديد من الدول العربية، ومن تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي، خاصة مع سورية ولبنان والعراق ودول الخليج ومصر. لذلك يمكن القول إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية، وبداية إرهاصات هذا التحول، لكن جذور التحول ترجع إلى أن الدولة التركية وجدت نفسها في حقبة تاريخية، مضطرة فيها إلى أن تعدل وتطور توجهاتها السياسية الخارجية، نظراً للتغيرات التي طرأت على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، فعملت على تقديم إسلام حداثي، فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، وعلى احتضان حوار داخلي، يزداد حيوية ونشاطاً، ويرتكز إلى مقولات الإصلاح السياسي، والخروج من إسار الماضي، إلى جانب بروز مجتمع مدني تركي، يؤكد ذاته يوماً بعد آخر في مواجهة الدولة المركزية المتخندقة، ويدعم ذلك اقتصاد حيوي متنامٍ باطراد.

وأدرك قادة حزب العدالة والتنمية أهمية الشرق الأوسط، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة، نظراً لأنها تعتبره يشكل ثقلاً موازياً للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولايات المتحدة. كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة التعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة. وحددّ وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، الذي يعد العقل الاستراتيجي المفكر للسياسة الخارجية التركية، مبادئ التحرك التركي في التوازن بين حرية التحرك والأمن، وبشكل لا يفضي إنجاز الحرية إلى تهديد الأمن، الأمر الذي ينبغي معه إنهاء الاشتباك مع الجيران وتصفير المشكلات معهم، واتباع مبدأ سياسة السلام الاستباقية، التي تقتضي المبادرة والسعي إلى حلّ المشكلات والصراع في المناطق المحيطة بتركيا، وتجسدت هذه السياسة في الوساطة التركية بين سورية وإسرائيل وبين الأطراف المتصارعة في العراق واليمن. كما تجسدت، أخيرا، في الوساطة المشتركة مع البرازيل لإنهاء قضية الملف النووي الإيراني. ويضاف إلى ذلك اتباع تركيا مبدأ المشاركة الفاعلة إزاء مناطق المجال الحيوي لها.

وعمل الساسة الأتراك على تحقيق هذه المبادئ، من خلال فتح الحوار الاستراتيجي مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، والعمل على تحقيق الأمن المتبادل، والتعاون الاقتصادي المتبادل بين تركيا وجيرانها، إلى جانب السعي إلى التعايش الثقافي. وذلك انطلاقاً من عملية ''التمكين المتبادل''، المستمدة من الفيلسوف الألماني فريد دالماير، التي تريد تركيا بواسطتها تحقيق التمكين الذاتي، والإسهام في تمكين الآخرين من أجل الاستقرار في المنطقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي