منابع المال ومصارفه
المال له مداخل ومخارج, فمداخله: الجهات التي ينبع منها المال, ومخارجه: الجهات التي يصرف فيها المال, فالمال يدخل ثم يخرج.
ومداخل المال أو منابعه إما مباحة وإما محرمة, والمنابع الحلال أكثر من الحرام, والحلال إما رواتب حكومية, وإما تجارة حرة, وإما مزيج بينهما, والتجارة ــــ كما في الحديث الضعيف ــــ تسعة أعشار الرزق, وأكثر التجار أصبحوا أثرياء بفعل التجارة اليومية, لا بفعل المرتبات الشهرية, ومع ذلك تميل الشريحة الأوسع في مجتمعنا إلى مصادر الرزق الحكومية لا التجارية؛ وذلك لضمان الدخل الشهري, عوضاً عن هاجس الدخل اليومي, مع أن في التجارة الحرة مزايا كثيرة, منها حرية العمل, واتساع هامش الدخل بفعل الصنعة وتراكم الخبرة, ولو نجحت وزارة العمل في أن تهيئ فرصاً تجارية للشباب ــــ ولها جهود مشكورة ــــ لأدى ذلك إلى تضاؤل سوق البطالة, واتساع سوق التجارة, ولا سيما في ظل استقرار أسعار النفط المرتفعة التي يمكن أن يستفاد منها في تمويل تلك الفرص التجارية.
أما المجالات التي يصرف فيها المال, فهي إما واجبة, وإما مستحبة, وإما محرمة. وليس حديثنا في المحرم ــــ وقد تحدثت عنه في مقالات عدة ــــ لكن حديثي فيما هو واجب أو مستحب.
ثم الواجب إما أن يكون نفقة وإما زكاة. والنفقة الواجبة على نوعين:
1- نفقة واجبة على سبيل الدوام كالنفقة على الزوجة.
2- نفقة واجبة على سبيل الحاجة كالنفقة على الوالدين والأولاد, فهؤلاء تجب النفقة عليهم عند حاجتهم إلى المال؛ إما بسبب صغر, وإما فقر, ونحو ذلك. فالنفقة إذن تجب لمن له حق النفقة, من الزوجة, وكذا الأولاد والوالدين إذا كانوا محتاجين إلى النفقة, يعني الأصول وإن علوا, والفروع وإن نزلوا, فالشارع أوجب حقاً في المال للقريب الذي تمحضت قرابته ــــ إما بالزوجية وإما بالولادة وإما بالأبوة وإما بالأمومة ــــ دون القريب البعيد, رفقاً من الشارع بالمكلف. وبالتالي فإن الزوجة لا تنقطع نفقتها الواجبة, ولو مع غناها, بخلاف الوالدين والأولاد. ولهذا فإن السطو على مال الزوجة أو مرتبها أو على جزء منه هو جزء من سرقة منظمة يدينها الإسلام ويحرمها, ويعدها جزءاً من ممارسة خالية من القيم والذوق والأخلاق.
أما الواجب الثاني, فهو الزكاة, وهي مستحقة في المال النامي بالفعل أو بالقوة.
أما النامي بالفعل, كعروض التجارة. وأما النامي بالقوة, كالنقود الورقية الراكدة في الحساب الجاري مثلا, فهو إن لم يكن نامياً بالفعل, فهو مال نامٍ بالقوة؛ لأن صاحبه قادر على تنميته بالتجارة فيه لو أراد, وهذا من حث الشارع للمكلف على أن يحرك المال وينميه, بالقدر الذي يحقق له نسبة من الربح تزيد على 2.5 في المائة, كي يحقق دخلاً يفوق حجم الزكاة, ولهذا أمر الشارع بتحريك مال اليتيم وتنميته بالتجارة كيلا تأكله الصدقة (يعني الزكاة). والزكاة يجب دفعها للأصناف الثمانية أو أحدهم, وقد جاءت هذه الأصناف مذكورة في قوله تعالى: (''إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل..'' وتفسير بعض الفقهاء المعاصرين لصنف ''.. في سبيل الله'' بما يشمل الدعوة إلى الله وسبل الخير، هو تفسير يرجع على الأصناف السبعة الباقية بالإبطال, وإن كان الهدف منه توسيع صلاحيات الاستفادة من المال, فهو هدف غير مقبول شرعاً في ظل وجود البديل, وهو ما يسمى الصدقة, فهي شرعت لكل سبل الخير بلا استثناء, وبالتالي فإن توسيع دائرة الزكاة لتشمل كل طرق الخير يضيق دائرة الصدقة عملياً, وذلك باستغناء التاجر عن دفع مال الصدقة بدفع مال الزكاة في كل المجالات الخيرية, وهذا مخالف لمقصد الشارع, كما أنه مخالف لأسلوب التعدد في آية الزكاة؛ لأننا إذا عمَّمنا مصرف (في سبيل الله) ليشمل كل سبل الخير, فما الفائدة إذن من النص على الفقير والمسكين وغيرهما؟ ولهذا كان موقف جمهور أهل العلم واضحاً وحاسماً في معنى الآية الكريمة.
هذا بالنسبة للأموال الواجب دفعها.
أما الأموال المستحب دفعها, فهي إما أشياء تثبت في حال الحياة, وإما بعد الوفاة. فالشيء الذي يثبت في حال الحياة لا يخلو إما أن يكون مما ينفد بعد الدفع, ويمكن لجهات الخير التصرف فيه بما تراه من مصلحة, كالصدقة, وإما يكون مما لا ينفد بعد الدفع, بل يبقى أصله ثابتاً, ولا يمكن للجهات الخيرية التصرف فيه إلا حسبما قرره الدافع كالوقف. وبالنظر إلى الواقع العملي نجد أن كلاً من الصدقة والوقف حققا مكاسب كبيرة للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة, كما أن المؤسسات الخيرية ترتاح للصدقة في كونها تفتح لها المجال واسعا في دفع المال المتصدق به للجهات التي تراها أكثر حاجة, وبالتالي فللمؤسسات الخيرية خيارات كثيرة وصلاحيات واسعة في اختيار الجهة التي يصرف فيها مال الصدقة, أعني إذا لم يحدد المتصدق الجهة التي يبذل لها المال, كأن يدفع المال في صندوق الصدقات, فتدفعه المؤسسة في ترجمة وطباعة كتب العقيدة أو الأخلاق مثلا, أو تدفعه في بناء المشاريع الخيرية, أو في دعم الدعاة إلى الله في الخارج مثلا, وهكذا, كما أن المؤسسات الخيرية ترتاح للوقف في كونه ينشط عملية بناء الوحدات السكنية الوقفية, ويساعد على جمع المال في تسبيل الأصول, ومنع التعرض لها ببيع أو نحوه. كما أنه يحقق حاجة الواقف في عدم التعرض لأمواله الموقوفة بالبيع أو التصرف, وبالشروط التي يراها هو, ما دامت في دائرة المشروع, وبالتالي فالوقف يحيط مال الواقف بسياج يحميه من التآكل, ولذا نجد كثيراً من الأوقاف باقية ومتجددة مع أنها موقوفة منذ مئات السنين.
هذا فيما ينفذ حال الحياة. أما الأموال المستحب دفعها, مما لا ينفذ إلا بعد الوفاة, فهي الوصايا, وهي خيار من خيارات دفع المال, بحيث يصح لصاحب المال إذا أراد أن يحفظ له حقاً فيه بعد وفاته أن يحفظه بمقدار الثلث على الأكثر ''الثلث والثلث كثير'' سواء أوصى به لنفسه أو لغيره بشرط أن يكون الموصى له غير وارث, ومن حكم الوصية أنها تحفظ حق الميت في حدود الثلث من ماله, ولا ينفذ ما زاد على الثلث حماية لحق الوارث من الضياع.
وبتأمل منابع المال ومصارفه, نجد أن الإسلام قد وضع للمسلم برنامجاً مالياً متكاملا, يحمي حقوق الأقرباء والضعفاء, ويجعل لهم حقاً في مال الأقوياء, ويعطي للمسلم حقه في التصرف بماله, ويرسم له معالم الجود والخير عبر الصدقة والوقف والوصية وغيرها, ويقنن له طرق الإنفاق بصور متعددة, وبخيارات وصلاحيات تخدم المصلحة العامة والخاصة على حد سواء.