الهيئات المنظمة ووجه الرأسمالية الكالح
أعتقد أننا نتحول تدريجيا من الاقتصاد الريعي, حيث تقوم الدولة بتطوير المشاريع التنموية وتمويلها وتشغيلها لتوفير السلع والخدمات الرئيسة لمواطنيها (تعليم، علاج، إسكان، كهرباء، اتصالات، ماء ... إلخ)، إلى الاقتصاد الرأسمالي، حيث تقوم عناصر الأسواق بتوفير تلك السلع والخدمات، وتقوم الدولة ومن خلال الهيئات المنظمة بتنظيم الأسواق بما يطورها ويجعلها قادرة على توفير السلع والمنتجات بأسعار متناولة وبجودة معيارية، إضافة إلى حماية أطراف الأسواق كافة، خصوصا المستهلكين، الذين يعدون الحلقة الأضعف في كل سوق.
سوق الاتصالات في بلادنا من الأسواق التي تؤكد اعتقادي، حيث تم تحويل هذه السوق بالكامل من عباءة الدولة إلى عباءة السوق، حيث تقوم هيئة الاتصالات بتنظيم السوق واستقطاب الشركات العاملة فيها وتنظيم علاقتها بعضها ببعض وبالمستهلك، وهاهي سوقنا تشتمل على أربع شركات كبرى تقدم خدمات الاتصالات بأنواعها كافة، أيضا السوق المالية تؤكد ذلك، حيث خرجت من عباءة الحكومة إلى عباءة السوق، حيث تقوم هيئة السوق المالية بتنظيم السوق وتطويرها وحماية المتعاملين فيها، وهاهي عناصرها الخاصة تقوم بمهامها بشكل مناسب. وهذه هي سوق الطاقة تسير في هذا الاتجاه، حيث تنظمها هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج وتقوم شركات خاصة، وإن كانت مملوكة بالكامل أو بنسبة كبيرة للحكومة، بتقديم خدمات الكهرباء والماء بشكل مناسب أيضا.
الاقتصاد الريعي له مزاياه وله عيوبه، وكلنا يعلم أن الاقتصاد الريعي كان مناسبا حينما كانت الإيرادات كبيرة وتغطي متطلبات خطط التنمية المالية، وحينما كان القطاع الخاص السعودي شبه غائب ويحبو على يديه. أما اليوم فأصبح لا خيار أمامنا سوى التحول إلى نظام اقتصادي آخر يستطيع أن يحقق الأهداف التنموية المنشودة بالاستخدام الأفضل للإمكانات المتوافرة في القطاع الخاص السعودي الناضج الذي أصبح قادرا على النهوض بمهامه التنموية، لكن وبكل تأكيد النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي نوغل فيه - كما يبدو لي - بسرعة كبيرة له عيوبه لما له من وجه كالح بشع، خصوصا أن الرأسمالية الغربية (بحسب معايير آدم سميث دعه يعمل دعه يمر) أصبحت رأسمالية منفلتة لا ضابط لها. وعادة ما تكون المجتمعات ضحايا لها، حيث تطغى قضية نمو الأرباح سنويا على عقلية قيادات الشركات، وإن كان ذلك على حساب المستهلكين من أفراد المجتمع، وإن وقعت الفأس على الرأس لجأوا إلى الحكومات لحل مشكلاتهم، كما هو الحال في الأزمة المالية الطاحنة الحالية التي عكست فداحة الرأسمالية.
إذن نحن - المستهلكين السعوديين - نعيش حالة من القلق نتيجة هذا التحول الذي لا بد منه، ونريد التفكير في إيجاد الحلول التي تخفف من آثار هذا التحول، والحد من الآثار السلبية للرأسمالية الكالحة البشعة وترويضها لتصبح رأسمالية أخلاقية رغم أنفها تراعي حقوق الأطراف كافة ولا تغلب مصلحة طرف على آخر، فلا يموت الذئب ولا تفنى الغنم. وكلنا يعلم إذا تركنا الذئب ليأكل الغنم كما يشاء سيموت هو في النهاية لأنه لن يجد ما يأكل من الغنم.
نعم كل الوزارات المعنية والهيئات الحكومية المنظمة تقول بحماية المستهلك، لكن الواقع مؤلم وغير مقنع، فمن الواضح أن الشركات كأحد عناصر السوق، وهي الطرف المنتج، ما زالت تطغى على المستهلك ولا سبيل لمنعها من ذلك. وقضية الحد من طغيانها أصبحت قضية فردية، فكل يبذل جهده لحماية نفسه، والقصص كثيرة، حيث يعاني المستهلكون من شركات الاتصالات والمستشفيات والجامعات والمدارس الخاصة وشركة الكهرباء وشركة الماء، وليس أمامهم إلا صناديق الشكوى لهذه الشركات ومواقعها الإلكترونية التي تعدك بالشمس والقمر ولا تعطيك سوى الظلام الدامس (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). وليس أمامهم سوى الهيئات المنظمة التي تحابي الشركات وتعاني منها، خصوصا أن الشركات منشآت منظمة مسلحة بجيوش المحامين وأجهزة العلاقات العامة والإعلام وقادرة على قلب الحقائق والحصول على حقوقها على حساب حقوق المستهلكين.أمامنا جمعية واحدة لحماية المستهلك في الأسواق كافة، وهي جمعية مشلولة محبطة وصلت مشكلات أعضاء مجلس إدارتها إلى الصحافة. وللأمانة، وإن كانت في أحسن أحوالها، فستبقى عاجزة عن حماية المستهلك في الأسواق كافة، الأمر الذي يتطلب إنشاء جمعيات أهلية متعددة لحماية المستهلك في كل سوق مثل جمعية الاتصالات والتقنية الأهلية، وجمعية الكهرباء والماء الأهلية، وجمعية العقار الأهلية وهكذا، وإلا سيبقى المستهلك دون حماية حقيقية تخفف من بشاعة الرأسمالية غير الأخلاقية، وهي الأصل وإن ادعى البعض وجود رأسمالية أخلاقية.
وجه الرأسمالية الكالح لا يصيب المستهلك من قبل الشركات الكبرى، بل يصيب الدول النامية من قبل الدول الكبرى. ومما يشير إلى ذلك ما قاله الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ''إنّ الأسواق الناشئة التي قامت بكل ما يلزم لتبقى اقتصاداتها مستقرة، لا يمكن أن تصبح اليوم ضحية للكازينو الذي أداره الأمريكيون بأنفسهم''، وهو يعني السوق المالية الأمريكية التي انهارت بسبب التلاعبات وجرت وراءها الأسواق المالية العالمية كافة.
لست لدي حلول لما نحن فيه وما نعيشه من قلق وما يلحقنا من ضرر، لكني على ثقة لو أن مؤتمرات ومنتديات عقدت من قبل الجهات الحكومية المعنية، خصوصا الهيئات المنظمة ومن قبل مؤسسات المجتمع المدني السعودي مثل مجلس الغرف التجارية أو جمعية حماية المستهلك، لوصلنا إلى حلول ابتكارية تلائم ثقافتنا كمسلمين نسعى إلى توظيف مبادئ الاقتصاد الإسلامي التي تقوم على التعامل الأخلاقي بالدرجة الأولى، وكلي ثقة بأن الهيئات المنظمة عندها ستجد حلولا جذرية للحد من الرأسمالية الكالحة البشعة والاستفادة من الرأسمالية في جوانبها الإيجابية.