رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


يجب أن تتجاوب الوزارات مع ما يكتب في الصحافة وتأخذ بنقدها البناء

ناقشت في مقال سابق أهمية الصحافة في حياة الناس والمنظمات والشعوب. وذكرت أنها متنفس للكاتب ودوحة للقارئ، ومصدر ثري لمتخذ القرار. إنها صوت الأمة ومنبر الشعب إذا ما روعيت فيها الحرفية، والتطورات المهنية، وجُندت لتهذيب القرارات المصيرية والخطط التنموية.
إلا أننا نلاحظ أن بعض الصحف ظلت رهينة فكر قديم ومنهج عتيق تخاف كل شيء ومن أي شيء, وتتوجس ريبة من كلمة عفوية أو عبارة عارضة. وعمل كهذا يضر بالصحافة وبالصحيفة وبكل الأطراف ذات العلاقة من قراء وكتاب. فالقارئ ـ على سبيل المثال ـ يرى في الواقع عكس ما تنشره الصحف, فتفقد مصداقيتها, وأي خبر أو مقال ينشر يظل موضع تساؤل فيولي وجهته إلى وسائل إعلام خارجية ومصادر معلومات يراها محايدة ليتأكد من صدق ما يسمع, وهذا حقه, لأنه يريد أن يعرف حقيقية ما يجري حوله.
أما الكاتب فعناؤه كبير ومجهوده مضاعف، فعليه أن ينظم ما يختلج في خاطره ثم يكتب فكرته ثم يدرسها ويتدارسها ويضع خطوطا حمراء على الجمل التي تحتمل أكثر من تأويل ليعيد صياغتها. وعمل كهذا يكلف الكاتب كثيرا من العصف الذهني والضغط النفسي, وليس أمر على الكاتب من مقال يعصف فيه ذهنه ثم يمنع نشره، أو تحور فكرته، أو تشوه معالمه. وبعد هذا العناء تظهر مقالات صامتة خالية وخاوية لا رائحة فيها ولا طعم, لا تعرف ماذا يريد أن يقول صاحبها، تقرأ مقالا أشبه بالقصيدة رمزية. بعض الكُتاب يبتعدون عن كل هذا فيكيفون المقالات المعرفية والنظريات العليمة ويحاولون تطويعها كي تناسب العمل الصحافي, وهنا يبدأ الانحراف. الصحافة مصدر لعرض التناقضات, ومكان لقبول الاختلافات, وليس منبرا لعرض النظريات والنماذج العلمية, فهذه لها دورياتها ومجلاتها ومؤسساتها، فإن أصبحت الصحف تهتم بنشر المقالات العلمية والمعرفية فقد جنحت عن رسالتها وابتعدت عن وظيفتها.
الكاتب الذي ينتمي إلى صحف لديها درجة معقولة من الحرية لا يتكلف كل هذا العناء، فيذهب مباشرة إلى الفكرة ويعرضها بكل وضوح ولا يحتاج إلى إعادة صياغة أو مزيد من التورية أو تغيير الكلم عن مواضعه. وهنا تتجلى متعة الكتابة، وتتضح قوة العرض، وسلامة المنهج، ويبرز احترام القارئ، وولاء الكاتب، وترى أن هذا مقال جدير بالقراءة, وأن هذه صحيفة جديرة بالاحترام.
وكررنا مرارا وتكرارا أن الحرية المطلقة في الصحافة غير موجود حتى في العالم الذي يدعي ذلك, لكن ما نسعى إليه هو درجة معقولة من الحرية تسمح للعقول بأن تنطلق على سجيتها, وللأفكار أن تخرج من وكناتها. الكاتب ابن بيئته, يعرف ما يدور في مجتمعه ويعلم ما هو محظور وما هو مقبول, وما هو حق وما هو باطل, ولا أظن كاتبا غيورا يود أن تشيع الفوضى في بلده ويتحلل الرأي العام من قيوده, فالهدف حراك وسجال فكري وثقافي حول موضوعات تمس حياتنا نشترك جميعا في صياغتها: القارئ والكاتب والمسؤول.
خذ مثلا نظام ''التقويم المستمر'' للمرحلة الابتدائية الذي اعتمدته وزارة التربية والتعليم وطبقته على أبنائنا قبل سنين دون علمنا، ها هي الآن تريد أن تلغيه بحجة أنه ثبت فشله. ترى لو تدخلت الصحافة في حينه وأشركت أصحاب الفكر والرأي العام في موضوع كهذا هل سيكون مصيره الفشل؟ ولو اشتركنا جميعا من قبل واتفقنا على تطبيق ''التقويم المستمر'' ثم ثبت فشله, فالوزارة من ذلك براء, فقد عرضت الموضوع للنقاش وأخذت رأي أهل الاختصاص وأولياء الأمور وكل من له علاقة, ولهذا نجد للوزارة عذرا إن فشل المشروع فكل أدلى بما لديه في الصحافة, التي تمثل الحوض الذي يجتمع عنده صاحب الفكر والصحافي والقارئ وولي الأمر والقيادات التربوية وعلماء التربية وكل من يهمه الأمر. أما إذا غيبت الصحافة مثل هذه الأمور وتوجست من الخوض فيها وآثرت البقاء في الظل وحجبت رأي الناس وأهل الخبرة عن المسؤول خشية غضبه, فستعبث كل جهة وتصول وتجول دون علم متلقي الخدمة, ولهذا أرى أن الصحافة جهة رقابية راقية تعدل سلوك المنظمات وتقوم مخرجاتها.
فإذا أردنا أن نرقى بصحافتنا حتى تأسر قراءنا، وتغري كتابانا، ونستمتع بمقالات تمزج الفكر والعلم والأدب، تشارك الوزارات والهيئات تهذيب قراراتها وتصحيح مسيرتها, فعلى الصحافة أن تتجرأ قليلا وألا تتهيب طرق الموضوعات الساخنة, فالحرية الصحافية تُؤخذ ولا تٌمنح.
هذا بعض ما عندي حسب المساحة المخصصة, وأنا مـتأكد أن لديكم أفضل منه، فهيا بنا نسعى إلى توفير بيئة صحافية آمنة نتبادل فيها الفكر والرأي, وتكون مصدرا موثوقا وصادقا لنشر المعلومة, تحترم عقلية من يقرأها وتجذبه إلى أغوارها وتغنيه عن مصادر أخرى تستغل تقييد الصحافة فتنشأ مصادر معلومات ملوثة نستقي منها معلومات مغلوطة وحقائق مكذوبة. كما نريد أن نحفظ كتابنا ونصقل مواهبهم ونطلق إبداعاتهم, وبهذا نضمن استمرار الأقلام المتميزة بدلا من أن تتوقف وبالتالي تتوقف الاستفادة منها!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي