خريجو الثانوية والجامعات وسوق العمل
في مثل هذا الوقت من كل عام يتابع الطلاب والطالبات وأولياء أمورهم الأخبار ذات العلاقة بالقبول في الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى, أو ما يمكن تسميته التعليم فوق الثانوي. وهذا الاهتمام وهذه المتابعة من قبل الجميع تأتي متسقة مع الرغبة في بناء مستقبل يحقق من خلاله الفرد النجاح والاستقرار في حياته, ويتمكن من خدمة وطنه ومجتمعه في المجال الذي يستطيعه أو يحتاج إليه الوطن, وما من شك أن حاجة الوطن ممثلة في سوق العمل تتطلب نظرة شمولية واسعة لكل آفاق المهن والأعمال التي يلاحظ الجميع أن جزءاً كبيراً منها مشغول بغير السعوديين لأسباب عدة منها عزوف بعض السعوديين عن بعض الأعمال, أو عدم توافر المهارات المطلوبة لهذه الأعمال, أو تدني الأجور في بعض الأعمال والمهن, أو استحواذ غير السعوديين على بعض المهن, والوقوف في وجه الشاب السعودي ومحاربته ومنعه من الدخول في المجال, وإن دخل في المجال نفسه تتم مضايقته بكل الوسائل والطرق لإخراجه من المكان, بل إن الأمر يصل إلى حد تهميشه, وعدم إعطائه فرصة النمو والترقي المهني والوظيفي حتى يبقى ضعيفاً لا دور له. هذه المقدمة أعرضها تمهيداً لمناقشة موضوع القبول في الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم فوق الثانوي, والسياسات والإجراءات المتبعة في هذا الشأن, والمقاعد المتاحة لخريجي وخريجات الثانوي في الجامعات حسب تصريح الدكتور خالد بن محمد العنقري وزير التعليم العالي, حيث أشار في تصريحه المنشور في جريدة ''الجزيرة'' يوم السبت 21/7/1431هـ إلى أن الجامعات السعودية مهيأة لاستيعاب ما يقرب من 90 في المائة من الخريجين والخريجات, أي أن الجامعات ستقبل 278 ألف طالب وطالبة في جامعات المناطق كافة, وفي مختلف التخصصات.
ما من شك أن المرء يفرح بقدرة الجامعات على استيعاب هذا العدد الكبير من الطلاب, وإعطائهم فرصة التعلم واكتساب المعرفة, ومن ثم خدمة الوطن, لكن الأمر الغائب هو قدرة الجامعات الحقيقية, هل لدى الجامعات الإمكانات المادية والبشرية التي تؤهلها ليس لاحتضان الطلاب مكانياً لمدة من الزمن, لكن لتحويل عملية الاحتضان إلى عملية تعلم حقيقية يتم من خلالها اكتساب المعرفة والمهارة التي تجعل المتخرج قادراً على ملء الفراغ الذي يوجد في هذا المجال أو ذاك؟ إن قبول الجامعات هذا العدد الضخم من الخريجين أمر مبهج, ويحدث السعادة في النفس, لكن تحويل المخرجات إلى مخرجات فاعلة ومنتجة هو الأهم بدلاً من أن يجد بعض الخريجين, أو عددا كبيرا منهم, لا يمكنهم الدخول لسوق العمل نظراً لضعف تأهيلهم.
إذا كانت الجامعات ستقبل 90 في المائة من الطلاب المتوقع تخرجهم, وهذه نسبة عالية جدا, تتبقى 10 في المائة لجهات التأهيل الأخرى, وبالأخص الكليات ومعاهد التدريب والتأهيل التابعة للمؤسسة العامة للتعليم التقني والمهني, ومثل هذه النسب تثير تساؤلاً لا بد من طرحه وبعناية فائقة: هل يتجه التعليم فوق الثانوي اتجاهاً صحيحاً في سياساته وإجراءاته, وعملياته؟! أم أننا نتعامل مع الموضوع بصورة آنية, أي أننا نلبي الرغبات في الوقت الراهن وفي اللحظة ونبقي حاجة المجتمع من الكفاءات لشغل الوظائف التي يشغلها غير السعوديين, وهي كثيرة, مؤجلة إلى زمن لا نعلم مداه؟
لا شك أن وزارة التعليم العالي ليست معنية وحدها بهذا الأمر, لأن رسم السياسات العامة من صلاحيات مجلس الوزراء, لذا ما تقوم به الوزارة هو تنفيذ للواجب, لذا لا بد من طرح إشكالية سداد حاجة المجتمع في ميادين العمل والمهن المختلفة للنقاش والدراسة, بهدف العمل على توجيه الخريجين إلى مجالات التخصص المطلوبة في سوق العمل بدلاً من الاستمرار في قبول الطلاب والطالبات في تخصصات تم الاكتفاء منها, أو قبولهم في تخصصات لا توجد حاجة من الأساس إليها في المجتمع, كما الحال في تخصيص الطلاب في لغات تندر الحاجة إلى خريجيها, وإن وجدت الحاجة فهي لأعداد قليلة جدا.
لقد استوقفني الجدول المرفق مع تصريح وزير التعليم العالي, وهالتني المقاعد التي خصصتها بعض الجامعات, حيث تبلغ لدى بعض الجامعات 30 ألفا, 36 ألفا, و20 ألفا... أرقام كبيرة, ورغم أن هذه الأعداد موزعة على نظام الانتظام والانتساب والموازي, إلا أن السؤال الذي لم أتمكن من الإجابة عنه هو: أين حاجة سوق العمل في هذه البرامج؟ وهل الجامعات التي خططت لقبول هذه الأعداد الكبيرة ستخرج ما يحتاج إليه المجتمع وعلى مستوى التأهيل الذي يمكن الفرد من القيام بوظيفته على الوجه المطلوب؟! أم أنها تسهم في معالجة مشكلة الرغبة في الالتحاق بالجامعة لإخراج المجتمع بكامله من الحرج؟ وتأجيل المشكلة ـــ ولو بصورة مؤقتة ـــ على أننا لا نستطيع منع ظهورها مرة أخرى, لكن بعد التخرج والحصول على الشهادة دون تأهيل حقيقي.