خيار كروجمان أو فيرجسون
الحديث عن الاقتصاد العالمي أصبح اليوم مملوءا بما يبعث على التشاؤم, فمن جانب المديونية العامة في أوروبا، والإفلاس الذي يهدد كلا من اليونان وإسبانيا ومن بعدهما البرتغال. ومن ناحية أخرى الأرقام المحبطة لإحصاءات التوظف في الولايات المتحدة، وتراجع الأسواق المالية العالمية على أثر ذلك. كل هذه العوامل لا تعزز التفاؤل حول أوضاع الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط، وتعزز رؤى المتشائمين بحدوث ركود آخر كالاقتصادي نورييل روبيني, الذي يرى أن ذلك حاصل لا محالة.
في بداية الأزمة المالية العالمية قامت الدول بتبني حزم تحفيز مالي لدعم النمو فيها وزيادة التوظف. وما إن بدأت هذه السياسات تؤتي أكلها، حتى أطلت مشكلات مخاطر الديون السيادية من جانب آخر, خصوصاً في أوروبا ـ كما أشرت. هذا زاد من الضغوط على الحكومات لتبني سياسات تقشف مالي لإصلاح أوضاع المالية العامة التي أصبحت الهاجس الأكبر الذي يهدد النمو الاقتصادي، وينذر بوقوع أزمة أخرى. لكن في الوقت نفسه، لن تكون سياسات التقشف التي تتبعها الدول بالمجان، وإنما ستكون هناك تكلفة تتمثل في التهديد بوقوع الاقتصاد العالمي في ركود اقتصادي آخر وارتفاع كبير في معدلات البطالة.
النقاش حول هذه القضية استعر مرة أخرى بين مناصري سياسات التحفيز المالي لدعم الاقتصاد وعلى رأسهم الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد في جامعة برنستون والكاتب في جريدة ''نيويورك تايمز'' بول كروجمان، ومناصري سياسات التقشف المالي لإعادة أوضاع المالية العامة إلى وضعها الطبيعي, وعلى رأسهم المؤرخ الاقتصادي والأستاذ في جامعة هارفارد نيل فيرجسون. لكل منهما حجة يدعم بها رأيه، فالأول يرى أنه من الضرورة تحفيز الاقتصاد وإلا سيقع ما هو الأسوأ، والآخر يرى ضرورة إعطاء الأولوية لإصلاح أوضاع المديونية العامة لتعزيز النمو على المدى الطويل.
لكن يا ترى من منهما المصيب ومن المخطئ؟ المسألة قد لا ترى بهذا الشكل، لكنها مسألة ترتيب أولويات بناء على المخاطر الآنية التي يجب تجنبها بسياسات على المديين القصير والمتوسط، وبناء على المخاطر التي تهدد النمو الاقتصادي على المدى الطويل باتباع سياسات تعزز متانة الوضع الاقتصادي وتعطي فرصاً أكبر للنمو الاقتصادي. كروجمان يرى أنه من البداية عندما دعم فكرة التحفيز المالي التي اتبعتها إدارة الرئيس أوباما أكد أن مبلغ 700 مليار دولار غير كاف وستظهر الحاجة مرة أخرى إلى التحفيز ثانية. وأثبت الزمن صحة كلامه، والآن هناك حاجة إلى حزمة تحفيز اقتصادي أخرى لتعزيز مصادر النمو التوظف. لكن ماذا عن تكلفة ذلك؟
يرى كروجمان أن حزمة تحفيز مقدارها تريليون دولار لن تمثل عبئاً كبيراً على الموازنة سنوياً, خصوصاً في ظل انخفاض أسعار الفائدة، ويقدر أنها ستكلف 17 مليار دولار سنوياً, وهي لا تمثل نسبة كبيرة من عجز الموازنة الأمريكية. لكن في الوقت نفسه، ستؤدي هذه الحزمة إلى تجنيب الاقتصاد الأمريكي مخاطر الوقوع في الركود الاقتصادي مرة أخرى, الذي سيكون أشد من السابق، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة بشكل كبير، التي قد تتحول بعد ذلك إلى بطالة هيكلية وسيكون من المعتاد بعد ذلك أن نرى أرقام بطالة تتجاوز 7 في المائة. هذا بالطبع يزيد من احتمالات الوقوع في حالة انخفاض الأسعار Deflation التي تمثل خطراً على الاقتصاد, لا يقل, بل يزيد على خطر التضخم. حيث يؤدي ذلك إلى تمسك الأفراد بالنقد وتراجع الاستثمارات بشكل كبير, ما يؤدي إلى أثر مضاعف في الاقتصاد. على الجانب الآخر يرى فيرجسون أن إعطاء الأولوية للتحفيز سيؤدي إلى تفاقم أوضاع المالية العامة وزيادة مخاطر مديونيات الدول، ما سيؤدي إلى تهديد مصادر النمو الاقتصادي على المدى الطويل, وأن الدول إذا لم تعمل على وضع حلول ذات مصداقية وواقعية لمعالجة مديونياتها، فإن الأسواق المالية لن ترحمها، وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكلفة السندات الحكومية, ما سيقوض التنمية والنمو الاقتصاد العالمي. إضافة إلى ذلك، يرى فيرجسون أن المضي في حزمة تحفيز اقتصادي أخرى سيؤدي فقط إلى تأجيل الأزمة إلى وقت آخر, ولن يؤدي إلى حل جذري للمشكلة. ما الحل إذاً؟ الحل لن يكون سهلاً, لأن الخيارات صعبة. فكما أشرت إما التضحية بالنمو على المديين القصير والمتوسط والمضي في إصلاح أوضاع المالية العامة للحد من مخاطرها على النمو الاقتصادي. وإما التركيز على المدى القصير على أمل أن تحسين الأوضاع على المدى القصير سيعزز الوضع الاقتصادي على المدى البعيد. لكن قد يكون هناك مزيج من التركيز على المخاطر على المديين القصير والبعيد, فمن ناحية يمكن المضي قدماً في حزمة تحفيز اقتصادي للحد من المخاطر التي أشار إليها كروجمان, وفي الوقت نفسه وضع خطة على المدى الطويل لمعاجلة أوضاع المالية العامة - التي يشير إليها فيرجسون - ما إن يعود التعافي الاقتصادي على أن تكون ملزمة وذات مصداقية. لكن يبدو أن الدول, نتيجة للضغوط السياسية التي تواجهها, فضلت خيار فيرجسون على خيار كروجمان.