رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


من المحيط إلى الخليج .. القوة العربية الحية تتآكل

إن كان مصاب الطبقة الوسطى في نزيفها المستمر، بسبب تكوينها وبنيتها الاجتماعية، إلا أن هذا النزيف تزايد بشكل متسارع، في أيامنا هذه، وأفضى إلى تردي الأوضاع المعيشية لقسم مهم من أبنائها، وفقدان وظائفهم ومصادر رزقهم، ليجدوا أنفسهم في الشوارع، بحجة تقليص النفقات، والتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية، وبالتالي وجدوا أنفسهم في عداد الفئات الدنيا والفقيرة، التي تتزايد أعداد المعدمين في أوساطها باطراد.

عوامل التآكل والانهيار
الأخطر من النزيف المستمر في أعداد الطبقة الوسطى أنها لم تعد تجد لها نصيراً من طرف الأنظمة السياسية الحاكمة، بعدما كانت بمثابة طفلها المدلل بعيد مرحلة الاستقلال. وبالتالي فقدت الطبقة الوسطى في البلدان العربية مكانتها المجتمعية، فلم تعد تلك الطبقة الحيّة الرائدة، التي قادت المجتمع، وأسهمت في وضع التوجهات السياسية والأيديولوجية، وعملت على إنتاج الأفكار والثقافات. وأثر تدهور الأوضاع المادية لفئات واسعة من الطبقة الوسطى في فقدانها القدرة على الحفاظ على وضعيتها الاجتماعية، إضافة إلى الضعف الذي رافق نموذج الدولة العربية، وانحسار العائدات والمخصصات لفئات العاملين في قطاع الدولة، وتسبب ذلك في تحوّل ملايين العاملين في مؤسساتها إلى جموع من اللاهثين وراء لقمة العيش، ولم يجدوا فرص العمل الإضافية الكافية للهروب من الإفقار والعوز، فلجأوا إلى سلوك طرق غير مشروعة، عبر مخرجات الفساد والرشوة المنتشرة في عدد من البلدان العربية.
ولعلّ من الأسباب المهمة لانهيار الطبقة الوسطى فشل البرامج التنموية في البلدان العربية، إلى جانب فشل المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأنظمة السياسية الحاكمة التي خرجت من بين أوساط الطبقة الوسطى، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية التي تضرب مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي، وتهدد دولاً عديدة بالعجز والإفلاس، التي لم تجد سوى تلك الحلول على حساب حرمان فئات واسعة من الطبقة الوسطى من عملها ومكتسباتها الاجتماعية.

دور الطبقة الوسطى
بدأت الطبقة الوسطى بالتنامي في البلدان العربية منذ أواخر القرن الـ 19، وكانت مدينيّة الطابع، تنتمي إليها فئات متعلمة وتجارية ومصرفية وعقارية. وتطلعت بحكم صلتها وتواصلها مع الغرب إلى تعميم القيم الرأسمالية ومُثلها، وأنشأت فيما بينها تحالفات سياسية تقوم على المصالح المشتركة، وتبوأت مناصب قيادية في الأحزاب والأنظمة السياسية التي حكمت بلدانها، وتمرست بعض فئاتها في مختلف فنون اللعبة السياسية، الأمر الذي هيأ لهذه الفئات أن تصل فيما بعد إلى مقاليد الحكم والسلطة.
كانت السمة البرجوازية هي الغالبة على الطبقة الوسطى، سواء من جهة النهج أم من جهة التفكير والسلوك، وتمكنت، بفضل تجاربها السياسية ووعيها لمصالحها ومستقبلها واعتمادها على ذكائها وحنكتها ومرونتها وانتهازيتها، أن تحيط بجملة من الظروف الموضوعية والذاتية من حولها، فأنجزت استحقاقات في معارك الاستقلال والدفاع عن القضايا الوطنية والقومية، وكذلك القيام بعدد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإدارية بالقدر الذي كانت تتحمله طبيعة تلك الأنظمة. وخرج من رحمها مختلف الحركات الفكرية والتيارات السياسية التي شهدتها البلدان العربية في القرن الـ 20، من قومية وليبرالية وإسلامية ويسارية.
وشكّل المثقفون العرب محور الطبقة الوسطى ومحركها الرئيس، إذ شهدت هذه الطبقة أقصى اتساع لها في عقود الستينيات والسبعينيات من القرن الـ 20 الماضي، وضمت فئات متنوعة من أصحاب الدخل المحدود وصغار التجار والموظفين والمزارعين وأصحاب المهن الحرة، وبلغت - في درجة قياسية - مستويات متقدمة من الوعي السياسي والنضج الفكري، وقطعت شوطاً كبيراً على طريق الاستقرار المادي والمعيشي والنفسي والاجتماعي، وتمحورت حولها كل أشكال النضال الوطني في انهزاماته وانتصاراته.
ويعود اتساع الطبقة الوسطى إلى الارتفاع الحاصل في الدخل في البلدان العربية نتيجة الفورة النفطية، حيث ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي العربي من 900 دولار في عام 1970 إلى نحو 2220 دولارا في عام 1998، وبلغ مستويات قياسية مع مطلع الألفية الثالثة، وارتفع متوسط العمر المتوقع من 55.5 سنة في 1960 إلى 66 سنة في 1998، فيما انخفض معدل وفيات الرضع من 166 في الألف إلى 55 في الألف في خلال الفترة ذاتها، كما ارتفع معدل القراءة والكتابة من 31 في المائة إلى 59.6 في المائة، وزاد نصيب الفرد الواحد من السعيرات الحرارية.
غير أنه سرعان ما انتهت الفورة النفطية، وبدأت مرحلة جديدة، انهارت فيها الطبقة الوسطى. إذ جرت عمليات تدمير شبه منظمة للرأسمال الاستثماري المنتج، وإفساح المجال للرأسمال الريعي، عبر السوق السوداء، وعمليات التهريب، والفساد الاقتصادي والإداري الذي انتشر في مختلف تفاصيل الحياة، إلى درجة أن بعض عمليات البيع والشراء، كانت تتم بواسطة قوانين معينة في بعض البلدان العربية، وذلك بغية تحقيق التقاسم الوظيفي بين رجال السلطة وفئات مافيوية, إضافة إلى الغياب شبه التام للديموقراطية والشفافية والمساءلة، ودولة الحق والقانون.
الانهيار والإفقار
جرت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، عمليات تحول نوعية في تركيبة وبنية البلدان العرب، وكذلك على المستوى العالمي. كان من أبرزها بداية انهيار الطبقة الوسطى في عديد من المجتمعات، وأعلنت بداية مرحلة جديدة، شهدت تمركز وتركز جديد للثروة من جانب، وتركز وتمركز جديد للفقر من جانب آخر.
وأدى انهيار الطبقة الوسطى إلى تراكم الفقراء العرب في أحزمة البؤس المحيطة بالمدن العربية التي باتت تشكل وفق تقارير التنمية البشرية أكثر من 56 في المائة من تعداد سكان المدن العربية، وإلى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء منذ الثمانينيات من القرن الماضي، بسبب تراجع الدولة عن بعض فضاءات القطاع العام، وبسبب الخصخصة وحرية السوق والفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وأصبح الفقر من الظواهر الخطيرة التي تهدد مستقبل البلدان العربية، وتعود أسبابه إلى النمو السكاني المرتفع 2.8 في المائة، وإلى اعتماد الأنظمة العربية بنسبة 70 في المائة على الواردات الغذائية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وسواها. ووصلت الفجوة الغذائية إلى 14.8 مليار دولار عام 1989، ونتيجة تراكم الدين العربي، فإن إيفاء مستحقاته تستأثر بحصة كبيرة من الناتج القومي الإجمالي, إضافة إلى ما يستأثره الإنفاق العسكري الكبير، وضآلة مشاركة المرأة العربية في الإنتاج.
وتنقسم البلدان العربية إلى ثلاث فئات من حيث الثروة والفقر: الفئة الأولى مجموعة البلدان الغنية، وهي تعتمد على عائدات النفط بشكل أساسي، وتشمل بلدان مجلس التعاون الخليجي إلى جانب ليبيا. والفئة الثانية مجموعة البلدان المتوسطة الدخل، وتشمل مصر والعراق والأردن وسورية والمغرب وتونس والجزائر. والفئة الثالثة مجموعة البلدان الفقيرة وتشمل السودان واليمن والصومال وجيبوتي وفلسطين. ويمكن ملاحظة التضاؤل المستمر لنصيب الفقراء من الدخل القومي العربي قياسا إلى دخول الأغنياء، خاصة الجدد منهم. فإذا أخذنا أفقر 20 في المائة من السكان نجد أن نصيب الفقراء نسبة إلى الأغنياء 5.9 إلى 46.3 في تونس و7 إلى 42.6 في الجزائر و9.8 إلى 39 في مصر و6.6 إلى 46.3 في المغرب و6.1 إلى 46.1 في اليمن و7.6 إلى 44.4 في الأردن.
إن الأرقام السابقة تدلّ على اتساع حجم التفاوت الاجتماعي، وعلى ضآلة نصيب الفقراء من الدخل في البلدان العربية، وهي تؤكد انقسام طبقي حاد في البلدان العربية. ومن ينظر في واقع البلدان العربية، منذ خمسينيات القرن الـ 20 المنصرم، ويدرس تركيبتها الاجتماعية، ويرصد التحولات الطبقية التي شهدتها، سيعثر لا محالة على انقسامات طبقية حادة، فضلاً عن الانقسامات الإثنية والطائفية والقبلية، وسائر الانقسامات ما قبل المدنية. وفي هذا المجال نعثر على فجوة عميقة واسعة ومتزايدة تفصل بين الأغنياء والفقراء في البلدان العربية كافة، سواء أكان بالنسبة إلى توزيع ملكية الأراضي والعقارات أم في توزيع الثروة، أم في احتلال مواقع النفوذ والمكانة الاجتماعية. وبذلك تكون البنية الطبقية في المجتمع العربي ككل، بنية هرمية تتشكل قاعدتها الواسعة من الطبقات الدنيا.
إن تحول معظم الأنظمة العربية في العقدين الأخيرين باتجاه سياسة السوق والانفتاح والتبادل الحر، وتخليها عن دعم القطاعات العامة الحيوية ودخولها في العولمة عبر الخصخصة ومحاولة الالتحاق بالثورة التكنولوجية من دون استيعاب التحولات العالمية والاستعداد الصحيح لها، أدت إلى جملة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تجسدت في ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية، وزيادة معدلات البطالة، والهجرة، واتساع الفوارق بين مختلف الفئات الاجتماعية. وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون الطبقة الوسطى ضحية تلك الإرهاصات، إذ سرعان ما تدنت مستوياتها الحياتية والمعيشية وفقدت ما كانت قد جنته وادخرته من أموال وممتلكات على محدوديتها، وأصاب الإحباط آمالها وطموحاتها ومستقبل أبنائها. إضافة إلى التعليم لم يعد مجانياً، بل ضعف دوره في الحراك الاجتماعي، حين تخلت الدولة عن سياسات دعمه، وعن توظيف الخريجين، وأفضى تطبيق برامج خصخصة القطاع العام إلى الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين فيه، إلى جانب تشجيع الاستهلاك وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية.
وفي أيامنا هذه، يمكن تقسيم الطبقة الوسطى إلى ثلاث فئات: دنيا ومتوسطة وعليا، مع العلم أن هذا التقسيم الإجرائي لا يُنكر انتماء هذه الطبقة الأصل، التي يستحيل في ظلها رسم حدود ثابتة فيما بينها، حيث تعيش الفئة الدنيا أوضاعاً صعبة من عدم الاستقرار، ويسكنها هاجس الوقوع في دوامة الفاقة والفقر والعوز، باعتبار أنها لا تمتلك أية مناعة تقيها من الأزمات الاقتصادية والمالية والتقلبات السياسية التي تحفل بها البلدان العربية. وتشكل تربة هذه الفئة أرضاً خصبة لنمو الاتجاهات والنزعات المتطرفة والإرهابية. وهنا، يمكننا فهم الدعوة التي وجهها نحو 500 فقيه ومفكر من البلدان الإسلامية في الأول من نيسان (أبريل) 2010، ودعوا فيها إلى "الحفاظ على الطبقة الوسطى من التآكل والتهميش، ودعم المشاريع التنموية، والحد من البطالة، ومعالجة مشكلات العشوائيات السكنية، والقضاء على التهميش الاجتماعي للشباب".
وتشعر الفئات الوسطى بفقدان الأمل في تحقيق وضع أفضل، لذلك يلجأ عديد من أفرادها إلى الهجرة القسرية، وما تبقى منها تحول إلى نخب ضائعة وصامتة، لا حول لها ولا قوة في ظل ما تعانيه من أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية، وينظر معظم أفرادها بألم وحرقة إلى ما آلت إليه الأوضاع في البلدان العربية، حيث يطول الفساد والانحراف والتردي مختلف المستويات، إلى جانب انزياح قيم الشرف والفضيلة والنزاهة والكفاءة، وأضحت جميعاً مجرد تعابير جوفاء فارغة من أي مضمون.
أما الفئة العليا فقد ترّبت على قيم الانتهازية والوصولية، وباتت تتطلع تطلعات برجوازية تتجاوز واقعها وإمكاناتها، وتستهويها تسلق المراكز المناصب الرسمية العليا في أجهزة الحكم والإدارة، ولا يهمها سوى الوصول إلى ذلك ولو بأي ثمن. فتراها لا تتورع عن التزلف والنفاق التوسل إلى المهيمنين والمتنفذين وأصحاب الجاه والسطوة والقرار، ويميزها الاستعداد للتنكر للقيم والمبادئ التي كانت تتباهى بها من قبل، والتذبذب والتنقل من موقع إلى آخر، ولا تعرف سوى منطق تبريري انتهازي، تجيد استعماله في كل الأوقات والأمكنة.
وأدت حالة الانهيارات التي لحقت بالطبقة الوسطى إلى بحث قطّاع واسع من المثقفين عن خيارات فكرية وثقافية ملساء، لا نتوء فيها، كي تكون قادرة على التسلل من كلّ المسامات، لتقترب من الموقف السياسي من النظام القائم. كما أدت إلى تدمير الحياة السياسية بكلّ تعبيراتها الحزبية بما فيها أحزاب السلطة نفسها. وسمحت قيم اقتصاد السوق لأفراد قلائل من الطبقة الوسطى بالانضمام إلى قائمة محدثي النعمة، بعد أن انخرطوا في سياسات الفساد والإفساد، وباتوا من لاعبيها الكبار. لكن في المقابل فإن قيم السوق نفسها دفعت بالأغلبية الساحقة من أفراد الوسطى إلى حافة الفقر والتسوّل، وإلى القاع المحروم من جميع الحقوق التي تليق بالإنسان من حيث هو إنسان.

تجاوز الانهيار
على الرغم من كل ما أصاب الطبقة الوسطى، فإنها تبقى حاملة لقيم التغيير والإصلاح، والتطور والتقدم، وستبقى كذلك. وإن انهيارها لا يعني تلاشي هذه الطبقة بقدر ما يدلل على الخلل الفادح في التراتبية الاجتماعية للبلدان العربية. وهذا سيؤثر في قدرة المجتمع على توليد قوة سياسية حيّة ومنظمة، تعبر عن مصالحه، وتعكس استقلاله، ودوره الخاص، ورؤيته للمستقبل. ذلك أن الطبقة الوسطى تعد حاضنة للفرد، ومعبرة عن هويته في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات.
ولا شك في أن انهيار الطبقة الوسطى في البلدان العربية يتعلّق، بشكل جوهري, بفشل خطط وبرامج التنمية، لذا فإن القدرة على تجاوز استمرار الانهيار مرتبطة بصياغة استراتيجية تنمية إنسانية، تتحدد أولوياتها وبرامجها طبقاً للإنسان العربي، وغير مرتهنة بوصفات المؤسسات الرأسمالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإملاءات قوى العولمة الرأسمالية، وأن يتم التركيز على تطوير قدرة الإنسان في البلدان العربية، وتأهيله بما يتناسب مع متطلبات العصر، ومراعاة تحقيق العدالة في توزيع الدخل الوطني، وقيام الدولة بدورها الأساسي، المتمثل في حماية الفئات الوسطى والفقيرة والضعيفة، وتوفير فرص العمل، بغية الإسهام في الإنتاج، إلى جانب ضمان مشاركتها الاجتماعية والسياسية.
ولا شك في أن كل المجتمع لا بد أن يستند إلى طبقة وسطى واسعة، كي ينمو بشكل مطرد ويتطور، فمثلاً تشكل هذه الطبقة في اليابان والسويد وسنغافورة أكثر من 90 في المائة، أما الـ 10 في المائة الباقية فهي مقسّمة بين الفقراء والأثرياء. وعليه فإنه، من الأهمية بمكان الاهتمام بمختلف فئات الطبقة الوسطى، لأنها تشكل الهوية الحاضنة للفرد عن طريق سيادة القانون والمساواة، وهي أساس السياسة والاجتماع فيه، بمعنى أن الهوية الجمعية للمجتمع تستند إلى تلك الطبقة بحكم تعددية المجتمع ثقافياً، وبوصفها الشق الاجتماعي الموحد للهوية, أو ما يعرف بالعصبية وفق الفهم الخلدوني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي