مجلس أعلى للصحة مرة أخرى
في عام 2005 وفي مثل هذا الشهر كتبت مقالا عن أهمية وجود مجلس أعلى للصحة, وذكرت أن وجود مجلس أعلى للصحة خيار استراتيجي لا بد منه. وذكرت حينها أن المجلس يمكنه أن يسهم في التأكد من أن تعدد المرجعيات الصحية, خصوصا في الرعاية التخصصية بين وزارة الصحة والجهات الحكومية الأخرى تعددية تكاملية لا تنافسية فمثلا من المعلوم أن الاستثمار في الخدمات التخصصية مكلفة جدا نظرا لما يتطلبه هذا النوع من الاستثمار من توافر الملاءة المالية اللازمة لشراء أجهزة وتجهيزات معقدة, علاوة على توافر المال اللازم لاستقطاب متخصصين ذوي كفاءة عالية. لذا فوجود الكوادر الطبية المتخصصة في مراكز طبية متخصصة محدودة سيسهم في بناء رؤية طبية شاملة, خصوصا عند ربطها بمراكز أبحاث طبية متخصصة. وذكرت في مقالي الذي كتبته قبل خمس سنوات أن التوسع في تقديم الخدمات التخصصية يجب ألا يكون بإنشاء مراكز تخصصية جديدة, بل بتوسيع المراكز الحالية ودعمها وتفعيل الطب الاتصالي للتنسيق مع المتسشفيات غير التخصصية الأخرى. ودعوت وقتها إلى تأسيس مجلس أعلى للصحة يحدد السياسات الصحية ويكون مسؤولا عن إقرار التوسع في القطاعات الصحية بحيث تربط الميزانيات التوسعية للخدمات التخصصية بالمجلس مباشرة.
أما اليوم, وبما أن مجلس الشورى مشكورا أقر تأسيس مجلس أعلى للصحة, فإنني أضيف إلى ما سبق أن طرحته في مقالين سابقين, أن وجود مجلس أعلى للخدمات الصحية ضرورة من أجل أن يسهم المجلس في توحيد الجهود في مجال الطب الوقائي والتثقيف الصحي, فالمريض ابن الوطن قبل أن يكون منسوبا لإحدى الدوائر الحكومية أو القطاعات العسكرية أو ينتمي إلى إحدى مناطق المملكة, كما أن أسلوب الحياة والعادات الغذائية السيئة ينعكس حتما على المريض بغض النظر على مرجعيته العلاجية. لذا فإن هناك حاجة إلى بناء استراتيجية وطنية تثقيفية تسهم في وضعها القطاعات الصحية كافة سواء الحكومية أو الخاصة على أن تقر عبر المجلس الأعلى للصحة. كما أن هناك حاجة إلى تحويل تلك الخطط التثقيفية إلى برامج تنفيذية, فمثلا هناك حاجة إلى زيادة الوعي الصحي للمجتمع عبر إرسال رسائل توعوية ذكية تسهم في تنفيذها القطاعات الحكومية ذات العلاقة كوزارة التربية والتعليم والإعلام والتجارة وغيرها من القطاعات الأخرى. فوجود مجلس أعلى برئاسة رئيس مجلس الوزرء سيسرع في تبني مثل هذه البرامج والمشاريع الوطنية.
كما أن الوقت الذي نعيشه يفرض علينا أن نربط مرافق وزارة الصحة بعضها ببعض عبر شبكة معلومات طبية وطنية مع إمكانية الدخول إلى هذه الشبكة من قبل القطاعات الصحية الأخرى وفق شروط وسياسات صحية يتم الاتفاق عليها بين القطاعات الصحية كافة. الدول التي توفر رعاية صحية وطنية كبريطانيا أسهم هذا الإجراء ليس فقط في رفع الجودة الصحية, بل الرقابة على مستوى الخدمات المقدمة, على الرغم من بعض الصعوبات التي واجهها هذا التوجه عند تطبيقه ابتداء. فلدينا حاجة وطنية إلى تعزيز التكامل بين القطاعات الصحية الحكومية المختلفة, خصوصا أن الخدمات الصحية الحكومية تشكل 80 في المائة من مجمل الخدمات الصحية بينما يشارك القطاع الخاص بنسبة 20 في المائة فقط.
هذا الربط بين القطاعات الصحية المختلفة يمكن أن يسهم في وضع استراتيجيات وطنية لمعالجة قضايا تكدس المرضى في غرفة الطوارئ في المستشفيات.
كما أن هذا الربط بين القطاعات الصحية المختلفة سيساعد على ربط الميزانيات الصحية بمخرجات صحية محددة, كما فصلت في ذلك في مقال سابق بعنوان «دعوة للتعامل مع ميزانية وزارة الصحة بشكل أفضل».
ولعل بعض المعارضين لوجود مجلس أعلى للصحة ربطوا ذلك المجلس بمجالس أخرى عليا لم يكن لها انعكاس حقيقي على الهدف الذي من أجله أقرت. أعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين الصحة والتعليم العالي, فالصحة من الأمور التي لها تأثير ليس فقط في الفرد بل لها externality affect ما يجعل الاهتمام بالصحة على مستوى الدول لا الأفراد, فمثلا انتشار الأوبئة من القضايا التي تؤثر أو تهدد حياة الأفراد فقط, بل ربما يمتد تأثيرها إلى الدول جميعا, ولعل الهالة الإعلامية التي واكبت انتشار مرض إنفلونزا الخنازير خير دليل.
كما أن التعليم العالي له لوائح وأنظمة ومرجعية واحدة هي وزارة التعليم العالي, لكن الرعاية الصحية لديها مرجعيات متعددة تعد وزارة الصحة إحدى تلك المرجعيات, كما أن طبيعة الحاجة إلى الصحة طارئ ولا يرتبط بمكان بخلاف التعليم العالي.
هناك قضايا صحية لم يتم الاتفاق عليها وهي ما ذكرت جزءا منها في مقال سابق قبل أكثر من أسبوعين كمراكز الأعمال وعمل الأطباء في العيادات الخاصة وغيرها. فبناء استراتيجية صحية وطنية لا يكمن تفعليها إلا عبر مظلة تكون بمثابة المرجع لجميع القطاعات الصحية ولعل المجلس الأعلى للصحة خير من يقوم بهذا الدور.
ختاما هناك تحديان رئيسان لوجود مجلس اعلى للصحة: الأول مدى قوة ونوعية القضايا المخول للمجلس دراستها. الآخر مدى وجود قنوات متابعة تتأكد من تطبيق قرارت المجلس عندما يقرها المجلس. لكن هذين التحديين يمكن تجاوزرهما إذا تم التركيز على أهداف المجلس الأساسية وتم توفير الكوادر البشرية المؤهلة القادرة على ضبط عمل المجلس ليقوم بدوره على خير قيام.