زمن التقشف والتراجع الأوروبي
قبل قمة لندن لقمة مجموعة العشرين التي عقدت في نيسان (أبريل) 2009، تحدث رئيس الوزراء البريطاني آنذاك جوردن براون عن أهمية إصلاح النظام المالي العالمي لمعالجة الأزمة العالمية، وبالتحديد نطق بالعبارات التالية «مشكلة الأسواق المالية غير الملجمة في ظل انعدام الإشراف على الأسواق أنها يمكن أن تحول كل العلاقات إلى عمليات دافعها الرئيس المصلحة الذاتية، مبنية على خيار المستهلك، ولا تساوي إلا ما يعادل السعر المكتوب عليها». هذه الكلمات الجميلة التي لخص بها براون جذور الأزمة العالمية التي تمثلت في الأنظمة المالية الهشة في الدول المتقدمة كانت دافعاً قوياً لدول مجموعة العشرين لتبني أكبر حزمة تحفيز اقتصادي منسقة في التاريخ البشري. وكان لهذا الإجماع الذي كرسته بريطانيا بحكم رئاستها لمجموعة العشرين آنذاك، دور كبير في إنقاذ الاقتصاد العالمي وخروجه من براثن الأزمة العالمية.
هذا التوجه شاركت فيه دول أوروبا الأعضاء في مجموعة العشرين, خصوصاً الدولتين الأوروبيتين الأكبر اقتصادا, وهما ألمانيا وفرنسا، وتبنت كل منهما حزمة مالية لحفز الاقتصاد العالمي، كما صبوا جام غضبهم على التشريعات المالية التي تبنتها الولايات المتحدة آنذاك, التي كانت سبباً في انطلاق شرارة الأزمة الاقتصادية العالمية. وفي سياق حديث براون المشار إليه لحث الدول على تعبئة مواردها المالية لحفز الاقتصاد العالمي، أشار إلى أنه لن يكون لحزم التحفيز المالي التي تبنتها دول المجموعة أي تأثير في الاقتصاد العالمي .. لماذا؟ لأن الخروج منها سيكون منسقاً. أي أن خروج أي دولة من دول مجموعة العشرين من حزم التحفيز والتحول إلى سياسات مالية متقشفة لن يكون إلا بعد التأكد من اكتمال التعافي الاقتصادي العالمي.
اليوم الصورة تتغير، بريطانيا تخرج، فرنسا تخرج، وألمانيا هي الأخرى تخرج، بل إن أوروبا جميعها تخرج من تعهداتها بخروج منسق ومتدرج من حزم التحفيز المالي التي تبنتها قبل عام وزيادة تقريباً. السبب طبعاً ـ كما هو معروف ـ تفاقم أوضاع المالية العامة في أوروبا, خصوصاً في دول اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وأيرلندا. وعلى عكس ما دفعت به أوروبا في قمة لندن، فهي الآن تضع أولوياتها فوق أولويات الاقتصاد العالمي، على الرغم من إيمانها بأنها لا يمكن أن تكون بمنأى عن تأثيرات ذلك في الاقتصاد العالمي. سرعان ما تخلت أوروبا عما آمنت به ودفعت به في لندن .. فهل خيبت أوروبا آمال العالم؟
بريطانيا أعلنت خطة تقشف لتخفيض عجز الميزانية الذي يبلغ 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأكبر بين دول مجموعة العشرين، إلى 1 في المائة خلال خمس سنوات كما وعد وزير المالية في الحكومة البريطانية الجديدة جورج أوزبورن. هذا سيتطلب بالطبع رفع ضرائب القيمة المضافة، وضرائب البنوك، وضريبة الأرباح الرأسمالية، وتجميد الأجور، وتخفيض بمعدل 25 في المائة في ميزانيات جميع الدوائر الحكومية عدا المتعلقة بالصحة، وغيرها من التدابير التي لا يمكن للمرء إلا أن يتخيل صورة رمادية لنمو الاقتصاد نتيجة هذه التدابير. وهذا لا يعني أن من غير المهم النظر فيها, لكن يجب ألا تكون بهذه القوة والشدة والسرعة التي قد تعصف بالنمو الاقتصادي العالمي.
فرنسا هي الأخرى تبنت خطة تقشف مالي جديدة تهدف إلى تخفيض الإنفاق الحكومي بما قيمته 100 مليار يورو لإعادة عجز موازنتها إلى المستويات التي يتطلبها الاتحاد الأوروبي, التي تعادل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2013. المشكلة ـ كما نرى ـ هي في السرعة التي يرغب الأوروبيون بها إعادة التوازن إلى أوضاع المالية فيها، وهو ما ينتقدهم فيه كثير من الدول, خصوصاً دول مجموعة العشرين. وقد كان من الممكن للأوروبيين أن يكونوا أكثر التزاماً في السابق عندما تركوا العنان لبرلماناتهم لتقرر زيادات في الإنفاق وتخفيضا في الضرائب. هذا الموقف دفعت به بشكل قوي بالطبع ألمانيا التي تعمل على خطة تقشف ليس في ألمانيا فحسب، لكن في أوروبا جميعها, خصوصاً منطقة اليورو, كي تضمن عدم تكرار حدوث ما حدث في اليونان.
أوروبا تعاني مشكلة عدم قدرتها على تنسيق التزاماتها بين ما هو أوروبي وما هو دولي، فعندما طرحت فكرة ضريبة المؤسسات المالية في إطار دول المجموعة، كانت هناك معارضة كبيرة من دول, خصوصاً تلك التي لم تتأثر بالأزمة المالية، ولم تضطر إلى ضخ أموال لانتشال بنوكها كما فعلت أوروبا وأمريكا. لكن الأوروبيين ماضون في فرض هذه الضريبة على المؤسسات المالية في كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وهو ما يشير إلى تفضيلهم الخيار الأوروبي، كما حدث في تطبيق سياسات الخروج على الخيار الدولي الذي دفعوا به في قمة لندن 2009 وقمة واشنطن التي سبقتها، عندما شجعوا على مشاركة دولية أوسع في انتشال الاقتصاد العالمي من خلال المجموعة الأكثر تمثيلاً للاقتصاد العالمي. وهو ما يعكس عدم قدرة الأوروبيين على الاعتراف بأخطائهم والعمل على إصلاحها كما فعل الأمريكيون الذين كانوا أكثر مرونة في التعامل مع متطلبات الإصلاح, خصوصاً ما يتعلق بالقطاع المالي.