خوف المؤسسة العامة للتدريب التقني من الانضمام إلى التعليم العالي لا مبرر له
تخوف المؤسسة من الانضمام إلى التعليم العالي لا مبرر له, ولا أدري كيف تكونت هذه الفكرة في أذهان قيادات المؤسسة, ففكرة انضمامها إلى التعليم العالي أمر بعيد التحقيق لعدة أسباب من أهمها: أن الجامعات تضخمت وترهلت حتى أصبح من الصعب عليها السير بخفة والانطلاق بفاعلية.
ناقشت في مقال الأسبوع الماضي السبب الجوهري وراء تعمد المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني إيقاف ابتعاث منسوبيها ورفضها مواصلة تعليمهم العالي، كي تثبت للرأي العام أنها مؤسسة تدريبية مهنية لا علاقة لها بالتعليم لا من قريب ولا من بعيد, وترى أن التعليم والتدريب خصمان لا يتفقان إذا حل أحدهما بأرض ارتحل الآخر. وتعمل كل هذا تخوفا من انضمامها إلى وزارة التعليم العالي كما حدث لكليات المعلمين وكليات البنات.
وكنت أريد أن أكتفي بمقال واحد حول هذا الموضوع وأعود إلى سلسلة مقالات التسعير التي بدأت أولى حلقاتها قبل شهر ووعدت بإكمالها، إلا أن البعض طالبني بمواصلة طرق هذه القضية مرة أخرى لعل قيادات المؤسسة تعيد النظر في قرارها وتدرسه بتعقل. حتى تتقارب الرؤى ونصل إلى نقاط اتفاق نريد في هذا المقال أن نبين بعض الحقائق التي قد تكون غائبة عن قيادات المؤسسة.
يجب في البداية أن يعلم المسؤولون في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أن العاملين فيها مواطنون سعوديون نفعهم سيعود عليهم وعلينا وعلى المجتمع بأسره، فأي تحفيز مادي أو معنوي سيضاعف الجهد ويكسب الولاء ويزيد الانتماء, ومن ثم يكون نتاجه للوطن وللمجتمع بأسره، ولو فكرت المؤسسة وفقا لهذا المبدأ فلن تحرم منسوبيها الأكفاء من مواصلة تعليمهم, خصوصا في هذا العصر الزاهر الذي تمر به البلاد, حيث أصبح التعليم متاحاً لكل مواطن مهما كان مؤهله وأيا كان جنسه.
أما تخوف المؤسسة من الانضمام إلى التعليم العالي فلا مبرر له, ولا أدري كيف تكونت هذه الفكرة في أذهان قيادات المؤسسة, ففكرة انضمامها إلى التعليم العالي أمر بعيد التحقيق لعدة أسباب من أهمها: أن الجامعات تضخمت وترهلت حتى أصبح من الصعب عليها السير بخفة والانطلاق بفاعلية, بل إنها غير قادرة على الوقوف نتيجة انضمام كليات المعلمين وكليات البنات, وعمل كهذا أصاب التعليم العالي في مقتل. هناك أمراض إدارية وتنظيمات رسمية وغير رسمية تصول وتجول داخل الجامعات وتعلم عنها القيادات الأكاديمية, لكنها لا تستطيع تحريك ساكن وهي ترى ما ينافي القيم والأعراف الجامعية فتغض الطرف كأنها لا ترى وتغلق الآذان كأنها لا تسمع، أقول هذا بحكم قربي من التعليم العالي. والكليات التي انضمت أخيرا إلى التعليم العالي ستعود إلى سابق عهدها وستستحدث لها هيئات تديرها خارج منظومة التعليم العالي إن لم يعد هيكلة الجامعات وتشذيبها وتهذيبها, حتى تكون قادرة على السير بخفة ورشاقة. فلتطمئن المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني ولتعلم أن الجامعات ترهلت بما فيه الكفاية ولن تستطيع أن تتحمل إضافة وحدة أرشيف صغيرة فكيف بمؤسسة عملاقة كالمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني بما تضمه من كليات ومعاهد.
ووفقا لهذه الحقائق فإننا نتمنى من المسؤولين في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أن ينطلقوا بحرية ويبنوا خططهم بعقلانية وأن يعيدوا النظر في عدة أمور استراتيجية وتكتيكية ومنها فتح باب الابتعاث على مصراعيه, وعليهم ألا يسيروا عكس التيار, فالدولة متجهة إلى توفير فرص العلم والتعلم لكل مواطن في كل موقع مهما كان مؤهله وأيا كان جنسه.
أما إذا لم تقتنع المؤسسة بكل ما ذكرت وترى أن منسوبيها ليس لهم حق في مواصلة تعليمهم, وأنها جهة تدريبية لا تمت إلى التعليم بصلة, فعليها أن تفك الاختناق وأن تسمح لمن أراد أن ينقل خدماته إلى جهات أخرى يرون فيها أنفسهم، وتقدر إنجازاتهم، وتحقق طموحاتهم. أما أن تقف حجر عثرة أمام موظفيها ومدربيها فسيفقدهم الإخلاص في القول والعمل وسيحاولون هدمها من داخلها, لأن الإحباط وعدم الرضا سيبددان الشعور بالولاء والرغبة في الانتماء, وسيؤثران لا محالة في الإنتاجية, فهذه المؤشرات نراها في الأفق قادمة, فنحن وإن كنا خارج أسوار المؤسسة إلا أننا نرى ما لا ترى. وإن آثرت المؤسسة التخلص من أنفس مواردها البشرية وسمحت لهم بالانتقال وتسليمهم إلى جهات أخرى جاهزين معدين, فعليها مراعاة العدالة, فليس من اللائق أن توافق على نقل ثلة وترفض البقية. إن مبدأ العدالة من المبادئ المؤصلة عند التعامل مع السلوك التنظيمي, فإذا فقدت العدالة وشعر الموظف بالظلم فسيتكون داخل المنظمة طابور خامس يعمل على تفتيتها ويستبشر بنهايتها لأنهم يرون أنها فقدت مصداقيتها فتكونت في صدورهم قناعات بأن المنظمة التي يعملون فيها لا تقدر الخبرات ولا تستحق التضحيات. الكثير يخشى تفشي الواسطة والمحسوبية عند تفعيل مبدأ النقل, وأنا أستبعد أن ترضى المؤسسة بمثل هذا لأن المجتمعات التعليمية والأكاديمية ترفض مثل هذه السلوكيات ولا ترضى أن يشاع عنها أنها تمارس الواسطة.
أعود وأكرر أنه يحدوني الأمل في تجاوب المسؤولين في المؤسسة, فليس من العيب العودة عن قرار ظالم إذا تبين عوره واتضحت سوءته, بل الجهل التمادي فيه سواء كان هذا قرارا رسميا أو سياسة ضمنية, وسنبقى ننتظر ما ستقدم هذه المؤسسة العملاقة لموظفيها ومدربيها, وأظنها ستزف لهم البشرى قريبا, فعلى قدر الكرام تأتي المكارم.