البنك المركزي الأوروبي عارٍ
إن الأزمة التي ضربت منطقة اليورو أخيرا ما زالت بعيدة عن الحل. والآن تتمحور مخاوف المستثمرين حول صحة البنوك الأوروبية، التي كانت معرضة بشكل ضخم لليونان وغيرها من بلدان جنوب أوروبا التي تعاني مشكلات مالية حادة.
حتى الآن لم يضع زعماء أوروبا على الجرح سوى بعض الضمادات. فقد تم إنشاء صندوق استقرار، لكن على أساس مؤقت. كما تم تقديم ترتيبات جديدة لمراقبة انضباط موازنات البلدان الأعضاء، لكن هذه الترتيبات عاجزة عن مواجهة تراكم الديون المستحقة غير المسددة. كما بدأ البنك المركزي الأوروبي بشراء السندات الحكومية، بما في ذلك سندات الحكومة اليونانية، بأسعار أعلى كثيراً من تلك التي تسود في سوق حرة.
وعمل التحرك الأخير من قِبَل البنك المركزي الأوروبي على تسليط الضوء على عدد من المسائل المعلقة بشأن بنية البنك والكيفية التي يتخذ بها قراراته. والواقع أن بعض القضايا التي أراد لها صناع القرار في أوروبا أن تظل مستترة أصبحت الآن مكشوفة على نحو فاضح.
على سبيل المثال، لم يتخذ قرار الشراء المباشر للسندات اليونانية بالإجماع. والآن يعرف العالم أجمع أن أكسيل ويبر رئيس البنك المركزي الألماني صوت ضد القرار. ورغم أن صوته كان منفرداً بين 22 صوتاً، فإنه في واقع الأمر يمثل 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، لذا فمن غير المعقول أن نعد صوته قيمة معزولة غير مؤثرة. ولقد اضطر رئيس البنك المركزي الأوروبي للمرة الأولى في تاريخ البنك إلى الكشف عن أن أحد قرارات البنك لم يتخذ بالإجماع.
من الناحية النظرية، كنا ندرك دوماً أن البنك المركزي الأوروبي قد يتخذ قرارات على أساس قاعدة الأغلبية إذا لزم الأمر. لكن حتى الآن لم نشهد حالة كهذه على الإطلاق، ولم تكن هناك إجراءات متبعة للكشف عن عملية التصويت. وهذا يشكل تناقضاً ملحوظاً مع الترتيبات التي يتبناها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وأيضاً بنك إنجلترا، حيث يتم الكشف بشكل روتيني عن الأصوات الفردية في إطار لجنة السياسات النقدية.
وكانت الحجة ضد الشفافية تتلخص في أن الظروف غير العادية التي تحيط بالبنك المركزي الأوروبي تجعل من الكشف عن الأصوات الفردية لأعضاء مجلس المحافظين وسيلة للضغط عليهم باعتبارهم ممثلين للبلدان الأعضاء. ويشعر المحافظ الذي يمثل بلداً يعاني الركود بأنه شبه ملتزم بالتصويت ضد زيادة أسعار الفائدة، أو خفضها، بصرف النظر عن الظروف الإجمالية التي تمر بها منطقة اليورو.
لكن هل من الممكن أن يدوم غياب الوضوح بشأن ترتيبات التصويت داخل البنك المركزي الأوروبي إلى الأبد؟ لقد أكد نوت فيلينك من البنك المركزي الهولندي صراحة على أن مزيدا من الشفافية في هذا السياق سيكون مطلوباً ذات يوم مع بلوغ البنك المركزي الأوروبي مرحلة النضج. ومن الواضح أن تصويت ويبر بمعارضة شراء السندات اليونانية يعجل بقدوم ذلك اليوم.وهذا يكشف أيضاً عن مشكلة أكثر جوهرية. إن بنية التصويت في البنك المركزي الأوروبي معيبة. في أي نظام فيدرالي لا بد من إيجاد نوع من التوازن بين هؤلاء المكلفين بتقييم الظروف الاقتصادية في المنطقة النقدية بالكامل وأولئك الذين يمثلون مصالح مناطق معينة.
وعولجت هذه المشكلة من قبل، في كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الألماني. ففي حالة بنك الاحتياطي الفيدرالي يتمتع سبعة أعضاء في المجلس بصلاحيات فيدرالية، ويصوت 12 رئيساً للبنوك الاحتياطية الإقليمية على التناوب، حيث يتمتع رئيس بنك نيويورك الاحتياطي فقط بصوت دائم. وعلى هذا فإن نسبة الأصوات المركزية إلى الإقليمية هي 1 إلى 0.7. ويعمل البنك المركزي الألماني طبقاً لترتيب مماثل حيث تبلغ نسبة المركزي إلى الإقليمي 1 إلى 1.1.
بيد أن البنك المركزي الأوروبي يختلف لبعض الأسباب الوجيهة, فهو يمثل السلطة النقدية لاتحاد فيدرالي يتألف من دول ذات سيادة. وعلى هذا فإن ثِقَل الأعضاء الوطنيين في مجلس المحافظين أعظم كثيرا. والواقع أن نسبة الأصوات الفيدرالية إلى الأصوات الوطنية في البنك المركزي الأوروبي تبلغ 1 إلى 2.5. وبما أن كل بلد عضو لديه صوت واحد، فإن هذا من شأنه أن يخلق نوعاً من الخلل الهائل في التوازن بين ثِقَل التصويت وحجم الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الأعضاء. أي أن ألمانيا تتمتع بالثِقَل نفسه الذي تتمتع به مالطا على سبيل المثال.
وبحث البنك المركزي الأوروبي هذه المشكلة، غير أن كل ما تم الاتفاق عليه (في معاهدة نيس) لم يتجاوز بعض التناوب المتواضع لعضوية التصويت مع نمو الاتحاد الفيدرالي. ولن يفلح هذا بأي حال من الأحوال في تصحيح الخلل في التوازن القائم اليوم.
حتى الآن استقطبت هذه المشكلة قدراً ضئيلاً من الاهتمام. لكن معارضة ويبر تسلط الضوء على إمكانية تصويت البلدان الصغيرة ضد البلدان الأعضاء المركزية والضخمة. ومن الممكن نظرياً أن يصوت تحالف من البلدان الصغرى ضد رغبة البلدان الأعضاء الستة في المجلس التنفيذي، إلى جانب فرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي تشكل في مجموعها 65 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو.
وقد يمثل هذا أهمية كبرى فيما يتصل باتخاذ القرارات الخاصة بأسعار الفائدة. وقد يرتبط الأمر أيضاً بشراء الديون من البلدان الأعضاء المتعثرة, فمن المرجح على سبيل المثال ألا يساوي الدين اليوناني الذي استحوذ عليه البنك المركزي الأوروبي القيمة المدفوعة فيه. وإذا أرغِمَت اليونان على إعادة هيكلة ديونها وفرض خصم على حاملي سنداتها، فإن البنك المركزي الأوروبي سيتكبد خسارة كبيرة. وستتحمل بلدان منطقة اليورو هذه الخسارة بما يتناسب مع حصتها في الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، على الرغم من أن الأصوات تؤخذ على أساس كل دولة على حِدة.
وهذا الترتيب الغريب يشكل خطراً كبيراً آخر يهدد الاتحاد الاقتصادي والنقدي، ويضاف إلى السياسات المالية غير المنسقة والافتقار إلى النظير الأوروبي لصندوق النقد الدولي. والواقع أن أي تلميح إلى أن القرارات التي يتخذها البنك المركزي الأوروبي ربما لا تضع في الحسبان مصالح منطقة اليورو بالكامل، أو أنها قد تكبد البلدان الكبرى في المنطقة خسائر كبيرة، من شأنه أن يكون في حد ذاته سبباً في زعزعة الاستقرار، خاصة في ظل حالة التوتر التي تعيشها الأسواق اليوم.
وهذا يشير إلى ضرورة إعادة النظر في معاهدة نيس. ولا شك أن هذا لن يكون بالمهمة اليسيرة نظراً لأسباب سياسية. إلا أنه بات من الواضح على نحو متزايد أن منطقة اليورو في حاجة إلى إصلاح جذري إذا كان لها أن تستمر في البقاء. ومن المؤكد أن الترتيبات الخاصة بالتصويت داخل البنك المركزي الأوروبي تشكل عنصراً آخر يحتاج إلى الإصلاح العاجل.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org