رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لماذا ديمقراطيتنا العربية مقيدة .. عصية .. مهمشة؟

عندما كتب الدكتور باقر النجار كتابه "الديمقراطية" أضاف إليها العصية على اعتبار عدم إمكانية تحققها بسهولة, وعندما تقرأ كتاب الدكتور علي محافظة حول الديمقراطية في الأردن نحت لها مصطلحا أنها الديمقراطية المقيدة, وأخيرا كتب الدكتور إياد علاوي رئيس وزراء العراق الأسبق رئيس القائمة العراقية اليوم وصف الديمقراطية العراقية بالهشة, ونحن هنا نتساءل لماذا الديمقراطيات العربية عصية ومقيدة وهشة؟
تشكل الديمقراطية إحدى المسائل الملحة, التي لا تزال مطروحة بقوة على النخب السياسية والثقافية العربية, ويكتسي النقاش حول الديمقراطية في البلدان العربية أهمية كبيرة في هذه المرحلة التي تعصف بمنطقتنا بشكل عام, حيث تسود حالة من انسداد الأفق السياسي, والاحتقان والانقسام المذهبي والطائفي بلغ مرحلة غير مسبوقة في بعض هذه البلدان, وبات ينذر بما هو أسوأ, ويهدد وحدتها وسيادتها وتكوينها الاجتماعي والسياسي.
وغالباً, ما يتم طرح السؤال, حول إمكانية تطبيق الديمقراطية في أي مجتمع, عما إذا كان المجتمع في حدّ ذاته مؤهلاً لممارسة الديمقراطية بشكل صحيح, وأنه ربما لا يملك المستوى المطلوب من الثقافة السياسية والمقومات الأخرى التي تؤهله لهذه العملية, مع أن التجربة الديمقراطية لا تنضج إلا من خلال ممارستها والتعلم من الأخطاء المرتكبة. وينسى أصحاب هذا الطرح أن ضعف المسار الديمقراطي في بلداننا العربية وتقطعه, ليس بسبب ضعف القيم الأخرى المصاحبة له, بل بفعل جملة من العوامل التي تخص الأنظمة السياسية الحاكمة وتخص مجتمعاتنا العربية كذلك, وأن المطلوب تذليل العقبات والصعوبات, وليس وضع مزيد منها.
ولم تعد الديمقراطية نموذجاً خاصاً بشعب أو ثقافة أو مجتمع معين, وهي لا تملك المفتاح السحري لحلّ جميع المشكلات والأزمات, وربما تكون أقل الأنظمة السياسية سوءاً كما يقال, لكنها برهنت على الدوام أنها أفضل نظام سياسي ممكن. وهي تعني, مهما اختلفت أقلماتها وحمولات مركباتها, حكم الشعب, وتجسد في عصرنا الراهن الصيغة الوحيدة القادرة على أن تؤسس لماهية الإنسان, بوصفه كائناً سياسياً, أي بوصفه مواطناً حراً ومسؤولاً, وصاحب هوية سياسية تجمعه مع سواه من المواطنين. وحين يفقدها الإنسان سيضطر إلى العودة إلى القيم والولاءات ما قبل المدنية, كي يحتمي بجدار التعصب الديني أو الطائفي أو القبلي أو العائلي, بعد أن يُحجّر تعصبه هذه القيم ويفسدها, فتتحول إلى منتجات ومسببات للنزاع والصراع.

الاستعصاء العربي
يكشف واقع الحال العربي أن الدولة العربية في نسختها الحديثة لم تسعَ إلى سلوك طريق التحول الديمقراطي, بل آثرت احتكار السلطة والحفاظ عليها, واضطرت أحياناً, تحت ضغوط داخلية وخارجية, إلى ترك بعض الهوامش الديمقراطية, الهشة والمقيدة, حيث قامت بإصلاحات جزئية, وسمحت بتعددية شكلية, وبإجراء انتخابات مقيدة ومفرّغة من محتواها, ولم تبنِ دولة مواطنين أحرارا, كما لم تعمل على تقوية هوية جامعة, بل كان البديل هو الارتكاس والارتداد نحو الطوائف والعشائر والنعرات الجهوية.
ويشي الاستعصاء العربي تجاه الديمقراطية بوجود استثنائية عربية, وليس إسلامية, إذ هناك تجارب ديمقراطية ناجحة في بعض البلدان الإسلامية, مثل ماليزيا وتركيا وسواهما, بل إن تركيا تشكل نموذجاً للاعتدال, يحكمها حزب إسلامي, وصل إلى الحكم بطريقة ديمقراطية, ويحترم قيم ومبادئ الديمقراطية التركية, لكن حين يتعلق الأمر بالممارسة الديمقراطية, فالخصوصية هي عربية, الأمر الذي يطرح أسئلة حول الأسباب والمعيقات.
لا أعتقد أن هنالك عداء متأصلاً في المجتمعات العربية حيال الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني, حسبما يتردد أحياناً في بعض الكتابات الغربية والعربية, كما أن الشعوب العربية لا يسعدها قمع وتسلّط الأنظمة السياسية الحاكمة, بل تنزع, مثلها مثل غيرها من الشعوب, نحو الخلاص والعيش ضمن مجتمع متعدد الآراء والأطياف والحساسيات. وما يردده بعض الكتّاب عن تميّز الدين الإسلامي عن الأديان الأخرى في تعارضه وممانعته المسألة الديمقراطية هو كلام فارغ, لأن العرب عرفوا لحظات تاريخية عديدة من الحياة والتطور, ولم تكُ حياتهم ومجتمعاتهم ملتصقة على الدوام بما يصدر عن أصحاب الخطاب الديني المتشدد, فالمسألة أكبر وأشد تعقيداً من التبسيط المخلّ الذي تطرحه مثل هذه الكتابات, التي يحمل بعضها كثيراً من العداء المستتر والازدراء والإقصاء حيال الآخر, لأسباب ثقافية أو لأسباب دينية.
ولا يمكن إنكار بعض مظاهر التعددية, الشكلية والجزئية, التي عرفتها بعض النظم السياسية العربية, وحدثت نتيجة التأثر برياح التغيير, التي هزت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق, لكنها بقيت مجرد انفتاحات لا تغير الطابع الرئيس للأنظمة السياسية العربية الراهنة, أو لمعظمها على الأقل, حيث لم تأت استجابة لضرورة تحقيق الديمقراطية أو لنجاعة وأهمية المشاركة الشعبية, بل نتيجة شعور بعض النخب المسؤولة بعمق الأزمة, وسعيها عن طريق بعض الانفتاح إلى إصلاح النظام أو إنقاذه.
يمكن أن نذكر في هذا السياق حالة المغرب, التي قامت بخطوات مهمة على طريق الانفتاح الديمقراطي, فدخلت المعارضة في الحياة السياسية بشكل سلمي, وشهد المغرب أول تجربة حكومة تناوب وطني, بفضل الحوار الذي بدأ في بداية تسعينيات القرن الماضي بين السلطة والمعارضة, لكن خطوات الانتقال الديمقراطي لم تستكمل, الأمر الذي تجسده خيبة الأمل في المستقبل لدى الأغلبية
وشهدت مصر بداية التعددية في عام 1970, لكن السلطة السياسية لا تزال حكراً على الحزب الوطني الحاكم, ولم يتطور منذ ذلك التاريخ أي شكل من أشكال المشاركة السياسية, حيث لا تزال التعددية الحزبية تراوح مكانها, مع وجود هامش محدود, لا يتغير من حرية التعبير والتنظيم. واعتبر الأردن من أوائل البلدان العربية التي التقطت مؤشرات التغيير العالمي, فحصلت بعض الخطوات من الانفتاح نحو الديمقراطية في عام 1989, لكنها سرعان ما تعرضت لانتكاسات وتراجعات بدءاً من عام 1991, حيث فرضت قوانين عديدة على الأحزاب, وقيدت الصحافة والحريات العامة. أما الجزائر, التي قامت بخطوات الانتقال نحو التعددية منذ 1988 إثر الأزمة التي عرفها النظام في ذلك الوقت, فشهدت أيضاً تراجعات خطيرة, تمثلت في سيطرة النظام ومنع أي تحول سياسي حقيقي في اتجاه المشاركة السياسية, ودخلت الجزائر في أتون حرب الداخلية, لم تخرج منها إلا بعد فترة طويلة, وكلفت أرواحاً كثيرة.
وفي سورية ما زال الحزب الواحد الحاكم ناجحاً في السيطرة على مقاليد الأمور منذ عام 1963, مع وجود واجهة لتعددية شكلية, لا وظيفة لها سوى تأكيد حكم الحزب الواحد, الذي ضمن لها عوضاً عن المشاركة في السلطة مشاركة في المنافع والامتيازات. وفي تونس, لم يعمل مجيء الرئيس بن علي على توسيع دائرة المشاركة السياسية كما كان مأمولاً, بل ساهم في التضييق المتزايد على الحريات الفكرية والتنظيمية حتى لم يبق منها شيء.
ربما, البلد العربي الوحيد الذي يقال إن فيه ممارسة ديمقراطية هو لبنان, ذلك أن نظامه تأسس, بالنظر إلى تركيبته الاجتماعية, وفق "ديمقراطية توافقية", كرست للأسف المحاصصة الطائفية البغيضة, على حساب المواطنة والدولة والمجتمع المدني, وتعرّض البلد لحروب أهلية عديدة, ومع ذلك تزداد الطائفية السياسية ضراوة فيه, وتفعل فعلها في تعميق الانقسام السياسي والاجتماعي. وفي ذات الطريق يسير العراق اليوم, حيث أنتجت انتخاباته مجموعات سياسية ولاؤها الأول مذهبي وطائفي, بل وإثني في حالة الأكراد, على حساب الولاء للعراق وللوطنية العراقية, والخلاص من الاحتلال. وعليه, فإن الناظر في الواقع العربي بجميع أمثلته يجد أن الديمقراطية لا تزال عصية المنال, وإن وجد شيء منها, فهو مقيد وشكلاني, الأمر الذي يوضح أن البلدان العربية لا تزال تفتقر إلى نموذج الحكم السياسي, القادر على بلورة حد أدنى من الإرادة الجمعية والتعبير عن المصالح المتعددة والمتباينة لقوى المجتمع وأفراده, ويعمل على تقنينها وتوفير السبل المناسبة للتوفيق فيما بينها, وتجاوز تناقضاتها وحلها بطرق سلمية.

معوقات الديمقراطية
يرجع بعض الباحثين غياب الديمقراطية واستعصاءها في البلدان العربية تارة إلى الدولة الريعية, وتأثيرات الاقتصاد الريعي, وتارة أخرى إلى الثقافة السياسية السائدة, بوصفها ثقافة التقليدية مستمدة من التقليد الديني, أو إلى القبيلة وسلطتها, أو إلى عوامل خارجية, يجسدها الوضع الذي عرفته البلدان العربية خلال فترة الاستعمار, والتبعية التي لا تزال تعانيها في منطقة جيوسياسية حساسة عالمياً, وتمتاز باحتوائها على أهم احتياطيات الطاقة في العالم, أو إلى وجود إسرائيل في المنطقة, وأثره في البلدان العربية, التي تضطر إلى تخصيص أموال كبيرة من ميزانياتها للتسلح ولقواتها المسلحة. وهناك من يعتبر أن إنجاز المسألة القومية هو الطريق لحل المسألة الديمقراطية, وكأن علينا أن ننتظر تحقق الوحدة العربية حتى نرى الديمقراطية.
لاشك في أن هذه العوامل مجتمعة, أو بعضها على الأقل, له تأثير كبير في إعاقة الوصول إلى الديمقراطية, لكنها لا تفسر المسألة العربية, ولا تشكل خصوصية عربية, أي لا تمنع تماماً التحول الديمقراطي, عند توافر الإرادة والمقومات اللازمة, لأن بعض البلدان العربية شهدت فترات على طريق التحول الديمقراطي, لكنها في كل مرة كانت تجهض بفعل جملة من العوامل الداخلية والخارجية.
ويمكن القول إن التفسير المتشدد القيم الإسلامية يلعب دوراً مهما في منع تشكيل وعي صحيح لمبادئ الإسلام السمحاء, ويعرقل نشوء وعي ديمقراطي في بلداننا. كذلك, تلعب الضغوط الغربية ومعها دولة الاستعمار الصهيوني دوراً مهماً أيضاً ومؤثراً في ترسيخ البنية المفتقرة للتغيير, وتضيق من خيارات النخب السياسية وتردعها عن اتخاذ مبادرات مستقلة وجريئة. ولا يفسر ذلك التعثر الذي تواجهه عملية الانتقال نحو الديمقراطية, بل إن مواجهة الضغوط الخارجية ومواجهة العدوانية الإسرائيلية ستكون أقوى في ظل نظم ديمقراطية, نظراً لما تقدمه الديمقراطية من أطر لتحقيق الوحدة الوطنية الضرورية لمواجهة العدو الخارجي. كما أن تأجيل الاستحقاقات السياسية بحجة تأمين مقومات مواجهة العدوان الصهيوني لم يساعد على تحرير الأرض المحتلة, بل أسهم في نقل الأزمات إلى داخل بلدان المواجهة.
إن معوقات التحول الديمقراطي السلمي تجسدها جملة من العوامل الموضوعية, ولعلّ أهمها يتعلق بضعف وهشاشة القوى الديمقراطية, سواء على مستوى النظم السياسية أو على مستوى القوى الاجتماعية, وتجسدها كذلك صيرورة المجتمع وببنية السلطة السياسية ونموذج الدولة الراهن. يدخل في هذا السياق ضعف التركيبات الاجتماعية العربية, التي لا تزال تنهل في عيشها من مخزون لحمتها وتضامنها الاجتماعي, الذي يعاد إنتاجه بشكل دوري, ووجود مؤسسات وهياكل قديمة, ترجع إلى ما قبل تشكل الدولة الحديثة, فيما تفتقر مجتمعاتنا إلى الخبرة والممارسة السياسية الحديثة, وتفتقر كذلك إلى قيم المواطنة الجامعة. إلى جانب تركيبة الدولة في النموذج العربي, وما تتضمنه من بنى إدارية وسياسية وقانونية, مسخرة في خدمة الأنظمة التي تعتاش على الثروة الريعية, حيث تعتمد الدولة على ما تدره المصادر الريعية, بوصفها مصدراً لأهم مواردها والعامل الرئيس في تأمين استمرار النظم والمجتمعات على الصعيد الاقتصادي, الأمر الذي أسهم في غياب البنية الصناعية المطلوبة, وغياب الإدارة الحديثة.
إذاً, معوقات الديمقراطية في البلدان العربية لا تعود إلى قضايا ثقافية أو دينية, بل إلى جملة عوامل سياسية واجتماعية وثقافية, وإلى ضعف قوى الدفع الحقيقية باتجاه التحول الديمقراطي. وشهدنا في السنوات الأخيرة بعض الإصلاحات والانفتاح في أغلبية البلدان العربية, كالمغرب والكويت والبحرين وقطر والسعودية, حيث اتسع هامش الحريات السياسية وفسحات التعبير عن الرأي. ولا تزال بلداننا العربية في حاجة إلى مزيد من الإصلاحات والانفتاحات, كي نصل إلى التغيير المنشود, لكن علينا أيضا أن نبني معالم للثقة والحوار الداخلي مع نظمنا السياسية وألا تكون القوى السياسية طامحة إلى سلطة أو كتفا للأجنبي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي