سيراليون .. ترسيخ الإسلام يبدأ من المسجد

سيراليون .. ترسيخ الإسلام يبدأ من المسجد
سيراليون .. ترسيخ الإسلام يبدأ من المسجد

تنعشك أصوات المؤذنين المنبعثة من المآذن الصغيرة في فجر فريتاون المملوء بالرطوبة اللزقة، فبعد ليلها الطويل المعربد تحتاج هذه المدينة إلى أن تعود إلى ربها، تملأ رئتها من روحانية هذا الصوت الجميل.
نعرف أن تاريخ سيراليون مملوء بالجراحات. كانت يوماً ما هذه البلدة مثالية لصيد الرجال المسلمين الشجعان, وترحيلهم إلى غرب الأرض وتبديل دينهم, لا أعرف لماذا قفز إلى ذهني وأنا أشاهد أحفادهم في شوارع فريتاون قصة الشخص الذي أخذ عبداً إلى أمريكا ونضاله للعودة إلى أرضه الذي أُسر منها, الذي جُسد في فيلم وثائقي مؤثر خُتم بموته في الوقت الذي كانت تطأ فيها قدمه أرضه. هناك همزة وصل كبيرة بين ما حدث لهذا الشخص وما حدث لآلاف السيراليونيين الذين رُحِّلوا في الماضي, فما أن وطأ الأحفاد أرضهم حتى أعادوا سيرة الإسلام في رحلة طويلة مازالت مستمرة إلى اليوم. وهي رحلة تتجسد في المساجد التي تبني هنا وهناك في أنحاء البلاد. وهي رحلة أيضاً يجسدها الأئمة الشباب المتخرجون في الجامعات الإسلامية من السعودية والسودان ومصر وغيرها من البلدان العربية, الذين يجاهدون بخطبهم ورسائلهم في إحداث أثر إيجابي وإرجاع الناس إلى جادة الصواب.

كثرة عاجزة
كنت أعرف مسبقاً نسبة المسلمين في سيراليون وهي نسبة تفوق 70 في المائة, لكن هذه المعرفة والثقة بالمعلومات التي جمعتها قبيل وصولي إلى هناك تضاءلت شيئاً مع نظرتي الأولى لمشاهد الناس والحياة في فريتاون العاصمة, الواقع أن لا شيء مما وقع على نظري عزز معرفتي المسبقة تلك, كنت قد وصلت إلى قناعة بأن الأغلبية العظمي للناس هنا هم مسلمون, إلا أن شعورهم الإسلامي ضعيف بعض الشيء, الجميع هنا: الناس, شكل الحياة, التفاصيل الدقيقة جميعها يطغى عليها المظهر الغربي بشكل كبير, إضافة إلى ذلك هناك تأثير العادات والتقاليد الإفريقية الوثنية. قال لي أحدهم معقباً على ملاحظاتي تلك "المظهر العام اليوم أفضل كثيرا مما كان عليه في السابق قبل سنوات قليلة مضت, والفضل في ذلك يرجع بعد الله ـ سبحانه تعالي ـ إلى أعضاء مجلس الأئمة أو اتحادهم بتوجيه الناس في المساجد والطرق والأماكن العامة إلى الرجوع إلى الإسلام والتمسك به". لقد اكتشفت لاحقاً أن جل أعضاء هذا الاتحاد هم من خريجي الجامعات والمعاهد العربية والإسلامية في السعودية والسودان ومصر وسورية, والحق أنهم يعملون بجدية على الرغم من كل هذه الظروف الصعبة, والقاسية التي تحيط بهم.

#2#

اتحاد الأئمة
قال لي الدكتور محمد حبيب شريف وهو عضو اتحاد مجلس الأئمة في فريتاون وخريج جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, حيث أمضى أكثر من عقدين هنا في السعودية طالباً للعلم, قال لي معرفاً الاتحاد بأنها منظمة مختصة بشؤون الأئمة والتنسيق بين جهودهم وتعنى بتفعيل الدور الإسلامي في المجتمع السيراليوني ودراسة ظروفهم الخاصة وبحث الحلول لها, وقد تأسس في 1996, ويهدف إلى جمع جميع أئمة سيراليون تحت منظمة واحدة ورعاية ظروفهم الخاصة والدفاع عن حقوقهم, والتنسيق بينهم من أجل توحيد العمل والموقف تجاه القضايا الإسلامية, وكذلك تشجيع الأئمة على توسيع نطاق العمل الدعوي في مجتمع المساجد, والعمل على الارتقاء بالمستوى العلمي والثقافي للأئمة, وربط الشباب المسلم بالأئمة وإنشاء المعاهد لتدريس الأئمة.
ووفقاً لحبيب فإن الاتحاد نجح في تحقيق كثير من الإنجازات, منها إنشاء معهد متخصص لتدريب الأئمة في إحدى مدن سيراليون "لونكية", ومركز للخياطة يعمل على توفير فرص العمل, وهذه نقطة مهمة ليس لعامة الناس بل حتى للأئمة أنفسهم, حيث كثير منهم ممن يحملون درجات عليا في التخصصات الإسلامية من العاطلين عن العمل, وهذا ما يمكن فهمه بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد, فسيراليون واحدة من أفقر بلدان العالم, بل هي ـ حسب معطيات الأمم المتحدة - واحدة من أربع دول في العالم تشتد فيها نسبة الفقر ولا يتجاوز فيها متوسط العمر 40 سنة بسبب الظروف الصحية والفقر, وبسبب الحرب الأهلية الوحشية التي دارت هناك بين عامي 1992 و2002 التي مات فيها مئاتُ الآلاف من الناس وخلفت وراءها عشرات الآلاف من الأيتام والمعوقين، فضلا عن آلاف المعوقين الذين قُطّعت أيديهم من معاصمها بسبب عدم رغبتهم في الاشتراك في هذه الصراعات. وهكذا كان أمام هذا المنظمة وغيرها العمل في اتجاهين كليهما مهمين للخروج من الأزمة التي يعيشها المسلمون في هذه البلاد؛ التوعية وتوفير الفرص الاقتصادية.
وفي الواقع أن الأئمة في هذه البلاد يقومون بهذا وأكثر, فهم يقومون بعمل جبار, خاصة إذا ما نظرنا إلى التركيبة المعقدة لسكان البلاد وكذا وضع المسلمين المذوبين في الحضارة الغربية, وكل ذلك من خلال العمل الجماعي المؤسس, حيث يشارك النساء الرجال في هذا الاتجاه, ويقوم الاتحاد بعقد اجتماعات أسبوعية لبعض الأئمة والخطباء لدراسة الأوضاع وتشجيع الشباب على ممارسة الدعوة بين الناس.

انطلاقاً من المسجد
باطلاعي على دراسة أعدها الدكتور حبيب عن الإسلام والمسلمين في سيراليون, وجدت كثيرا من النماذج التاريخية والحالية من الدعاة الذين أسهموا ومازالوا يسهمون في ترسيخ الإسلام هناك, وجل هؤلاء ينطلقون من المسجد باعتباره المكان الأنسب لهذا الطريق, منهم الشيخ إمام بشر خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. وقام هذا الشيخ الذي مات في بداية هذا القرن, ببناء أكثر من 50 مسجداً في فريتاون وما حولها, منها جامع الرحمة الذي يعد الأكبر على مستوى فريتاون وهو يتكون من طابقين ويتسع لنحو عشرة آلاف مصل. وقد بناه بالعون الذاتي, حيث كان يحث أغنياء سيراليون على بناء المساجد والصرف على أعمال الخير, وانطلق من المساجد التي بناها في تصحيح العقيدة الإسلامية من مظاهر الوثنية التي كثيرا ما تشاهدها تمارس جهلا بالإسلام, حيث نجح في إدخال كثيرين في الإسلام.
كما يسهم بعض الإعلاميين في ترسيخ مفهوم المسجد من خلال البرامج الإذاعية والتلفازية, إذ ينشط في هذا المجال صحافي اسمه بوبو باه يقدم عديدا من البرامج أبرزها برنامج باسم "مساجد على الهواء" يقوم بعرض حي للمساجد والخطب الإسلامية, والمحاضرات والدروس التي تقام فيها وإبراز جوانب الإسهام الذي تقوم بها المساجد في إقرار السلام والوحدة الوطنية, وما تقوم به من تنوير للمسلمين وتوعيتهم بالقضايا التي تهمهم, والحلول المقدمة من المساجد للمشكلات الاجتماعية.

الأكثر قراءة