لعبة اللوم .. وقضية الأزمة
منذ بدأت الأزمة، أفرغ الأوروبيون والآسيويون حمم انتقاداتهم على الولايات المتحدة كونها سبب الأزمة المالية العالمية التي أدت إلى هز أركان النظام المالي العالمي. وركز الأوروبيون بالتحديد على التشريعات المالية في الولايات المتحدة التي شجعت بشكل كبير على ظهور نظام مالي في (الظل) غير خاضع للتشريعات المالية التي تحكم الأنظمة المالية عادة. ففي الولايات المتحدة يقدر النظام المصرفي غير الخاضع لهذه التشريعات بما قيمته عشرة تريليونات دولار أمريكي، وهي قيمة عالية جداً بالنظر إلى حجم الاقتصاد.
مع بداية الأزمة دعا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي, الذي كانت بلاده ترأس الاتحاد الأوروبي, إلى قمة حول الأزمة المالية الأمريكية في انتقاد مبطن للولايات المتحدة. في الوقت نفسه أشار أمين عام الأمم المتحدة إلى المخاطر التي تحدق بالفقراء في العالم نتيجة الأزمة. الرئيس الأرجنتيني أطلق على الأزمة (أزمة الجاز) التي انطلقت من رحم أكبر اقتصاد عالمي. الرئيس ساركوزي هو الآخر شدد على أهمية إعادة النظر في التشريعات المالية وأهمية وضع مبادئ وقواعد تحكم عمل الأسواق المالية وصب جام انتقاداته في ذلك على صناديق التحوط, حيث أشار إلى أنها مؤسسات همها إقراض الأموال دون أي اعتبار للتكلفة ودون قيمة مضافة تذكر.
بالطبع كان لهذه الانتقادات نتائج إيجابية كبيرة تتمثل في الحملة التي قادها مجلس الاستقرار المالي بتكليف من مجموعة العشرين لإعادة النظر في التشريعات المالية بمختلف جوانبها، ما جعل الولايات المتحدة تذعن وتقدم الإصلاحات التي أشرت إليها في مقال الأسبوع الماضي. الأزمة كانت فرصة للأوروبيين وغيرهم لتوجيه اللوم على الولايات المتحدة لأنها هي التي جعلت نظامها المالي مرنا جداً ما سمح باستغلاله استغلالاً بشعاً من قبل المصرفيين, وبالتالي أدى إلى الأزمة المالية التي طالت جميع أنحاء العالم.
اليوم الصورة تتبدل بشكل كامل, وما كان أزمة تشريعات مالية في الولايات المتحدة يعود ليظهر على أنه أزمة مالية عامة في أوروبا التي هزت هي الأخرى أركان النظام المالي العالمي خلال الأسابيع القليلة الماضية. فمشارفة اليونان على الإفلاس بسبب عدم قدرتها على سداد فوائد مديونيتها العامة، وسير كل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وإيرلندا في الطريق نفسه جعل المستثمرين في الأسواق العالمية يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون ما تنتج عنه هذه الأزمة؟ وكيف سيكون شكلها؟ وكيف سيكون تأثيرها؟
الآن حانت الفرصة (للانتقام) ومن كان يلوم الولايات المتحدة في السابق على تراخي التشريعات المالية التي تحكم النظام المالي فيها يجب أن يأخذ نصيبه من اللوم على تراخي أوضاع المالية العامة (مع أن الولايات المتحدة ليست بأفضل حالاً) التي تحكمها الحكومات بشكل مباشر. اليوم الولايات المتحدة التي انتقدت في 2008 و2009 بسبب الأزمة المالية، توجه النقد والنصح لأوروبا لإصلاح أوضاع المالية العامة فيها. فوزير الخزانة الأمريكي تيموثي غايثنر يقوم بجولة أوروبية يحث فيها الدول الأوروبية على الاتفاق وعلى سرعة المبادرة لحل مشكلاتهم، ويحاضر الأوروبيين ويطلب منهم القيام باختبارات الجهد Stress Tests لاختبار مدى سلامة النظام المصرفي في أوروبا. ليس هذا فحسب، بل إن وكالات التصنيف الائتماني الأمريكية التي شن الأوروبيون عليها حرباً ضروسا لتأخرها في تخفيض التصنيفات الائتمانية للشركات الأمريكية التي أوشكت على الإفلاس، نراها اليوم تبادر (بناءً على لوم الأوروبيين لها) وتخفض التصنيف السيادي لدولتين أوروبيتين من دول منطقة اليورو وهما اليونان وإسبانيا، وقد يلحق بهما البقية الباقية. بالطبع هذا التخفيض في الملاءة الائتمانية له آثار كبرى في اقتصاد الدولة ومنطقة اليورو بشكل عام حيث يؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل وتراجع الاستثمارات بشكل كبير, وبالتالي انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. في أوروبا هناك لعبة لوم أخرى تصب جام غضبها على ألمانيا التي أسهمت في تأخير الاتفاق على حزمة الإنقاذ الأوروبية لليونان, التي أدت إلى زيادة تكلفة هذه الحزمة بشكل كبير. فبسبب التفاوض على الالتزامات التي تطالب بها ألمانيا التي ستتحمل العبء الأكبر من تكلفة هذه الحزمة، تفاقمت أوضاع الدين العام في اليونان وزادت تكلفة هذه الحزمة. إضافة إلى ذلك فإن إقدام ألمانيا على إيقاف عمليات البيع على المكشوف أجج انتقادات كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأخرى التي ترى أنها أسهمت في إرباك الأسواق المالية العالمية. ألمانيا في المقابل تلوم دول اليورو التي كانت السبب في مخالفة بنود اتفاقية ماسترخت وقانون الاستقرار المالي الأوروبي.
وفي جانب آخر من جوانب لعبة اللوم، تلوم الولايات المتحدة الأمريكية الصين بسبب تحكمها في سعر صرف العملة الصينية, ما أدى إلى تفاقم العجز في الميزان التجاري الأمريكي في مقابل فائض كبير على الجانب الصيني. وهذا يراه بعضهم سبباً أجج الأزمة المالية العالمية وخلق حالة من عدم التوازن الاقتصادي العالمي. الصين من جانب آخر تلوم الولايات المتحدة على نهمها على الاستهلاك وترى أنه لا علاقة بين سعر صرف العملة الصينية وبين اللاتوازن، وأن ذلك أتى من رغبة أمريكية بحتة لاستهلاك مزيد من السلع بتكلفة رخيصة، وبالطبع جاء ذلك على حساب معدلات الادخار الأمريكية, ما فاقم عجز ميزان الحساب الجاري. في النهاية الكل يلعب لعبة اللوم على الآخر والجميع مشتركون في المشكلة.